في عصر الجيل الرابع من الحروب، بات الفضاء الرقمي والإعلام، بوجهيه التقليدي، من خلال القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية، والحديث عبر مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر…)، أحد أبرز ميادين الصراعات الدولية، وربما أشدّها احتدامًا مع انكفاء فكرة “الحروب المباشرة” في أذهان قادة العسكر والسياسة، على وقع تجارب، لن تكون قطعًا تجربة الخروج المذل للآلة العسكرية الأميركية من أفغانستان آخرها. وفيما تبدو موازين القوى التقليدية (أقلّه ظاهريًا) أكثر ميلًا لتأييد قوى الهيمنة على الصعيد الدولي، تكتسي “معارك الإعلام” بين الخصوم شكلًا من أشكال التكافؤ، في حرب تحسمها العقول والأفكار المتدفقة عبر ضفتي الصراع، قبل الموارد الاقتصادية والإمكانات العسكرية. وهذا النوع من المعارك بالذات، هو ما بدأت تتحول إليه الشعوب والدول في مواجهة السياسات الفظة للقوى الكبرى، حيث وجدت طهران، شأنها شأن باقي أضلاع “محور المقاومة”، ضالتها في تحسين وتحصين “قوتها الناعمة” في وجه واشنطن، بالتوازي مع تدعيم جاهزية “قوتها الصلبة”، وذلك عبر سلسلة من القنوات والمنصات الإعلامية المختلفة.
واشنطن: مناهضة سياستنا تعادل “الإرهاب”
في واشنطن، ثمّة من يقرّ بوجود ما يسمى “استراتيجية طهران الإعلامية في الشرق الأوسط”، ويرصد ما يعتبره “جزءًا لا يتجزأ من جهود إيران لتبرير مشروعها الإقليمي” في مواجهة مشاريع الهيمنة الغربية في المنطقة. وبين إخفاقات سياسات واشنطن الشرق أوسطية، وانفضاح زيف شعاراتها حول “الديمقراطية”، و”حقوق الإنسان” أمام العالم، وبخاصة الشعوب العربية والإسلامية خلال العقود الماضية، يعترف محللون غربيون بنجاح طهران في “تعزيز مشروعها (حول مفهوم المقاومة) لدى جمهور واسع”.
ويحظى “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية”، المؤسس عام 2007، بعناية بالغة من عين الرصد الغربية عمومًا، والأميركية خصوصًا، ويُنظر إليه على أنه إحدى الجهات المسؤولة عمّا تعتبرها واشنطن “حملة التضليل الإعلامي” أو “استراتيجية نشر المشاعر المعادية لأميركا”، لدوره الكبير في دعم الجزء الأكبر من القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام الأخرى المدعومة إيرانيًا في الخارج، وعلى رأسها “قناة العالم” الناطقة بالعربية. وغالبًا ما يوصف الاتحاد المذكور باعتباره “الذراع الدعائية الرئيسية لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي” في إيران.
وعلى الرغم من أن العقوبات التي فرضها “مكتب مراقبة الأصول الأجنبية” التابع لوزارة الخزانة الأميركية في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2020 استهدفت خمسة كيانات إيرانية، مرتبطة بـ “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية”، فإن الأنشطة الخارجية للاتحاد والكيانات التابعة له، كانت تحظى باهتمام الحكومة الأميركية قبل فترة طويلة من ذلك التاريخ.
وتعود “المواجهة الإعلامية” بين إيران والولايات المتحدة إلى سنوات خلت، حيث أقدم عدد من الحكومات الغربية، في أكثر من مناسبة، على حجب قنوات تابعة لـ “محور المقاومة”، كقرار “مجلس أوروبا” أواخر العام 2012 حجب قناتي “العالم، الناطقة بالعربية، و”برس تي في”، الناطقة بالإنكليزية، المملوكتين للحكومة الإيرانية، كأول قرار يتخذه المجلس ضد كل وسائل الإعلام التلفزيونية والإذاعية التابعة لدولة معينة. ولطالما كان تبرير الغرب لقرارات مشابهة يأتي تحت مزاعم تحريض تلك القنوات على ما يعتبره “كراهية”، أو “إرهابًا”، و”انتهاكات حقوق الإنسان” مرفقًا بالردّ على اتهامات طهران له بقمع الحريات الإعلامية باتهامات مشابهة ضد الأخيرة التي تحجب محطات غربية مثل “بي بي سي” البريطانية، و”فويس أوف أميريكا” باعتبارهما جزءًا من “بروباغندا معادية” من منظور طهران.
كيف تقيّم واشنطن الاستراتيجية الإعلامية لطهران؟
وعلى العموم، تشكّل “قناة العالم” الإخبارية هاجسًا كبيرًا لدى صنّاع القرار في الغرب عمومًا، والولايات المتحدة خصوصًا على مستوى السياسات الإعلامية. ويعد إطلاق هذه القناة تحديدًا حدثًا ملفتًا بحد ذاته، وقد جاء ذلك في ربيع العام 2003، ليترافق مع الجدل السياسي المحتدم حول سياسات واشنطن في الشرق الأوسط وأوج الإحباط بشأن مستقبل “أطروحة نشر الديمقراطية” الأميركية في العراق آنذاك، بالتزامن مع مشهد إعلامي لا يقل ضراوة على وقع تنافس العديد من القنوات العربية والعالمية، كـ “قناة الجزيرة” القطرية، و”قناة العربية” السعودية، إضافة إلى قنوات أخرى دولية وبخاصة “قناة الحرة” الأميركية، على خطب ود الشارع العربي والإسلامي في تلك الفترة. وبالنظر إلى النجاح الذي حققته منذ الأسابيع الأولى، لا سيما في أوساط الجمهور العراقي، في ظل عجز القنوات المدعومة من جانب أميركا وحلفائها عن مواكبة الحدث العراقي بالشفافية المنشودة مع دخول البلاد في زمن الاحتلال، بدا دور “قناة العالم” أكثر خطورة في أعين الأميركيين، كونه بات يعرض “سردية” مغايرة تمامًا للسردية المتوخاة غربيًا للأحداث السياسية ليس في العراق وحسب، بل في المنطقة ككل. وتلفت دراسات غربية إلى “الشعبية المتزايدة” التي تتمتع بها القناة، وإلى تمويلها من خزينة حكومة طهران، بوصفها “أداة من أدوات البروباغندا الإيرانية”، و”معاداة أميركا”. وبحسب تلك الدراسات، فإن الهدف المعلن منها هو “مد الجسور بين بلدان العالم الإسلامي”، و”مجابهة الغزو الثقافي الغربي”، فيما يلهج خطها التحريري بـ “الانتقاد اللاذع” للسياسات الأميركية في المنطقة، والأنظمة العربية الموالية للغرب. كذلك، تتحدث مراكز الأبحاث الغربية عن بعض وسائل الإعلام المحسوبة على “محور المقاومة”، كـ “قناة المنار”، و”قناة الأنوار” بوصفها “قنوات دينية تحث على جهاد الأميركيين وقتالهم”.
في هذا السياق، يذهب باحثون أميركيون إلى أن “الاتحاد” ينشط في تطوير وسائل الإعلام التقليدي في كل من العراق ولبنان بشكل ملحوظ. ففي دراسة بعنوان: “فهم شبكة الإعلام الإيرانية الواسعة في الدول العربية”، يرى الباحث في “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى” حمدي مالك، أن استراتيجية الرأي العام الإيرانية في هذين البلدين تعكس نهج “الجمهورية الإسلامية” تجاه الأنشطة السياسية والعسكرية الجارية فيهما، وهو نهج قائم أساسًا على معارضة السياسات الأميركية و”الإسرائيلية” في الشرق الأوسط، زاعمًا أن “حزب الله” اللبناني مسؤول عن مشاريع “الاتحاد “في لبنان، بينما يُقدّم “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات العراقية” الدعم لمجموعة كبيرة من وسائل الإعلام التابعة لحلفاء طهران في العراق من بينها شبكات تلفزيون “الاتجاه”، و”العهد”، و”النجباء”، و”قناة البينة”. وبحسب الكاتب، المتخصص في دراسة الجماعات الشيعية، يتولى “حزب الله” بصورة مباشرة كافة أنشطة “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” في البلاد، بحيث يشمل ذلك تطوير وسائل الإعلام غير اللبنانية على غرار “قناة المسيرة” اليمنية.
وتلفت الدراسة، التي نشرها “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى”، إلى دور شخصيات بارزة في “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” في توفير الدعم الاستشاري لحركة “أنصار الله” اليمنية، في صياغة “الاستراتيجية الإعلامية” الخاصة بهم في تغطية التطورات السياسية والميدانية وتسليط الضوء على انتهاكات “التحالف”، الذي تقوده الرياض، في اليمن. وبحسب الدراسة، فإنه من غير المرجح أن يكون لإدراج “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية” على قائمة العقوبات في تشرين الأول/أكتوبر تأثير كبير على مشاريع “الاتحاد”، بالنظر إلى تمتع “حزب الله”، و”اتحاد الإذاعات والتلفزيونات العراقية” باستقلالية مالية كبيرة عن إيران سمحت لهم بالاستمرار رغم الضغوط الاقتصادية على الجمهورية الإسلامية بفعل سياسة “الضغوط القصوى” للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
مواقع التواصل الاجتماعي: البديل الإعلامي الأقل تكلفة للمقاومة العراقية
كما تتحدّث الدراسة عن لجوء حلفاء إيران في المنطقة إلى أساليب أرخص بكثير ماليًّا للوصول إلى جماهيرهم بفعالية، مشيرة إلى أن الحلفاء العراقيين لطهران زادوا مؤخرًا من أنشطتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما على تطبيق “تيليغرام”، وذلك من خلال إنشاء منتديات عبر التطبيق بغية نشر المشاعر المعادية لأميركا، إلى جانب مشاركة الإعلانات وتنظيم الأنشطة المتعلقة بحركات المقاومة، إضافة إلى تأسيس “قنوات إخبارية” على وسائل التواصل الاجتماعي تشارك في حملات مناهضة لواشنطن وحلفائها من السياسيين العراقيين، وبث التقارير حول الهجمات على المصالح الأميركية، ونشر الصور والمعلومات حول التحركات الأميركية في جميع أنحاء البلاد.
وتدعو الدراسة إلى اتخاذ إجراءات إضافية ضد الهيئات الإعلامية التقليدية أيضًا، وعلى رأسها “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات العراقية”، باعتباره المنظمة الفرعية لـ “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية”، بزعم تقديمه خدمات لوسائل الإعلام التابعة لـ”كتائب حزب الله”، و”عصائب أهل الحق”، و”حركة حزب الله النجباء” المصنفة على قائمة “الإرهاب” الأميركية. وتخلص الدراسة إلى مطالبة السلطات الأميركية بالنظر في معاقبة العديد من القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية والمواقع الإلكترونية والمنظمات المدعومة منها في جميع أنحاء المنطقة.
إيران وحربا سوريا واليمن: مقاربة مختلفة!
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا متزايد الأهمية في سياسات الشرق الأوسط منذ الربيع العربي عام 2011، فيما سعت دول مثل إيران والسعودية إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتأثير على الخطاب في الداخل وتقويض الخصوم في الخارج.
وفي مقال حمل تساؤلًا مفاده: “كيف يتم توظيف وسائل التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط؟”، رأت مجلة “ناشونال انترست” أن حكومات المنطقة تجهد في استغلال وسائل التواصل الاجتماعي من أجل حشد الدعم المحلي والخارجي لسياساتها. وبحسب المجلة، فإنه “بالنظر إلى هيمنة الحروب المستمرة في كل من سوريا واليمن على التغطية الإخبارية من الشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة، فقد اكتسبت مهمة حشد الرأي العام الدولي أهمية أكبر بالنسبة للجهات الإقليمية المنخرطة بشكل أو بآخر في هذه الحروب، وقد كانت وسائل التواصل الاجتماعي من ضمن وسائط التأثير الرئيسية في الرأي العام الدولي المشار اليه”.
ومن منظور المجلة الأميركية، “تعد إدارة وسائل التواصل الاجتماعي أشبه بعملية إيجاد التوازن بين عدة متناقضات، من جانب الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، التي تسعى إلى السيطرة على الخطاب السياسي الداخلي على الإنترنت من جهة، وتحصينه من المؤثرات الخارجية، بالتزامن مع مساعيها لاستخدام تلك الوسائل بغية التأثير على الرأي العام الدولي، من جهة ثانية، على غرار الحالة الإيرانية”. وفي هذا الإطار، أوضح رئيس قسم الدراسات الإعلامية في “الجامعة الأميركية الكاثوليكية” نيكي آخافان، أنه “لطالما كان لدى إيران هذا الموقف المتناقض حيال الإعلام، سواء التقليدي أو الحديث (وسائل التواصل الاجتماعي). فهي أعربت مرارًا عن مخاوفها من إمكانية استخدام هذه الوسائط كشكل من أشكال الغزو الثقافي من الخارج، من جانب أعداء إيران، وفي الوقت عينه أقرّت دائمًا بقوة وسائل الإعلام من أجل الدفع قدمًا بأجندتها الخاصة “.
وفي حين حرصت إيران على إظهار تدخلها في سوريا على أنه إجراء ضروري لمكافحة الإرهاب والتطرف، فهي تجنبت، في المقابل، التركيز على دورها في حرب اليمن، وذلك من خلال تسليط الضوء على الصراع باعتباره كارثة إنسانية تفاقمت بفعل تدخل غريمتها الإقليمية هناك، أي المملكة العربية السعودية.
وشرح آخافان “أن النهج الإعلامي الإيراني المذكور يعد ضروريًا من جانب طهران لما يتمتع به نظام الأسد من سمعة وحشية، حتى في الفضاء الإلكتروني، فما كان من الأخيرة إلا أن تدرج تدخلها تحت شعار مكافحة الإرهاب وليس بدافع شن حملة عسكرية دفاعًا عن الأسد”. وأضاف آخافان: “تعكس وسائل التواصل الاجتماعي المدعومة من حكومة طهران، عبر تركيز اهتمامها على مسألة التهديد الإرهابي، هذا الواقع، حيث تقوم بعرض صور عنيفة لمقاتلي داعش بصورة منتظمة ودورية ، وكذلك للجنود الشهداء الذين قتلوا على أيدي المتطرفين أو التكفيريين، إلى جانب نشر الصور الرسمية للقادة الإيرانيين التي ترمي إلى إشاعة جو من القوة والثبات”. وتابع: “بخلاف ذلك، ظلت المادة الإعلامية الايرانية المعنية بالوضع في اليمن محصورة في التركيز على دور المملكة العربية السعودية (ودور الولايات المتحدة بشكل غير مباشر) في إطالة أمد الأزمة الإنسانية داخل البلد الفقير”. ولفتت ناشونال انترست إلى “وجود إجماع لدى مختلف الأفرقاء السياسيين في إيران، على أن الحرب في اليمن هي مسألة مستنكرة، وتستحق الإدانة على المستوى الأخلاقي، ناهيك عن أن دور المملكة العربية السعودية في الصراع لم يؤدِ الا إلى تفاقم المعاناة الإنسانية”، موضحة أن “إيران، من خلال نشر الصور المروعة، تعكف على توظيف وسائل الإعلام عبر الإنترنت لتقديم وجهة نظرها بشأن الصراعات في سوريا واليمن”. وختمت المجلة: “لكن مقاربة طهران لكلا الحربين مختلفة”.
حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية: سبل النجاة “الافتراضية” متاحة!
في خضم “معركة الوجود” التي تخوضها بعض الحركات ووسائل الإعلام المنضوية في “محور المقاومة”، يعتبر “حزب الله” من بين عشرات الجماعات والمنظمات، المدرجة على “لوائح الإرهاب” الأميركية، التي أتقنت كيفية التغلب على معايير وتدابير الشركات المالكة لمواقع التواصل الاجتماعي لحجب صفحاتها وحساباتها عبر تلك المواقع. وفي حين تمكنت شركات مثل “فيسبوك” و”يوتيوب” و”تويتر” من حجب الصفحات الرسمية نهائيًا لعدد من الجماعات المتطرفة، مثل تنظيمي “القاعدة”، و”داعش”، غير أن تنظيمات محسوبة على “محور المقاومة” مثل “حزب الله”، إلى جانب “حركة حماس”، تمكنت من تعزيز وجودها “الافتراضي” عبر منصات التواصل الاجتماعي، من خلال تشجيع مؤيديها على نقل أفكارها السياسية، ورسالتها الإعلامية من خلال صور احتفالاتها، ومقاطع الفيديو المصورة لخطابات قياداتها، إلى جانب بعض النشاطات ذات الطابع الديني والثقافي دون أن يصل الأمر إلى حدّ تجاوز معايير المحتوى وسياسات النشر العائدة لتلك المنصات.
ويرجع محللون غربيون، نجاح “حزب الله” اللبناني، وكذلك الحال بالنسبة إلى “حركة حماس” الفلسطينية، في تحقيق انتشار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دون قيود تذكر إلى حد كبير، إلى تغيير في استراتيجيته المتبعة على صعيد مواقع “السوشال ميديا”، من خلال لجوئه إلى تدابير نشر معينة، مكّنته من التحايل على طريقة عمل “خوارزميات” (Algorithms) تلك المواقع، رغم نجاح بعضها مثل “فيسبوك” في حجب نشاط منظمات أخرى مصنّفة بدورها “إرهابية”.
وبحسب هؤلاء، فقد دفع تغيير “حزب الله”، وسائر عناصر “الماكينة الإعلامية لمحور المقاومة”، استراتيجيتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، شركات مثل “فيسبوك”، و”يوتيوب”، و”تويتر” إلى حيّز معقّد، وإشكالي من الناحيتين التقنية، والسياسية. فخلافًا لتنظيمات متطرفة وفق القاموس السياسي لواشنطن، مثل تنظيمي “القاعدة”، و”داعش”، فإن “حزب الله”، على غرار “حركة حماس” في فلسطين، يشكل قوة سياسية، وحزبًا سياسيًا معترفًا به في لبنان، ذلك أنه يحرص على عدم نشر مواد عنفية، ما جعله يستحق معاملة مختلفة من جانب تلك الشركات التي تعلن على الدوام التزامها المعايير الأميركية في “مكافحة الإرهاب”.
ومن منظور تقني، فإن الإشكالية، أو المأزق الذي تواجهه تلك الشركات في جهودها لمحاربة “حزب الله”، ونشاطه الإعلامي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هو أن التداول المكثّف لأي منشور فيها، يسهم في زيادة فرص ظهوره لدى جمهور ورواد تلك المواقع بصورة أكبر، وبالتالي يصبح مشروعًا التداول به. ومن منظور سياسي، فإنه من الصعوبة بمكان أن تنجح تلك الشركات في تطبيق قواعد ومعايير النشر التي وضعتها بنفسها، بالنظر إلى أن هذا النوع من الجماعات يتم النظر إليه بصفته منظمات سياسية داخل مجتمعاتها، أو بوصفها كيانات “إرهابية” خارجها.
هذا بالضبط، ما توضحه رئيسة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مركز “تشاتام هاوس” للبحوث في لندن بالقول: “يجب أن يكون هناك تمييز في طريقة فهمنا لكيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من جانب الجماعات والتنظيمات المختلفة”، مضيفة أن “حماس وحزب الله لا يستخدمان وسائل التواصل الاجتماعي لأغراض التجنيد، إلى حد بعيد، بقدر ما يوظفانها لترهيب أعدائهما وحشد مؤيديهما”.
وترى صحيفة نيويورك تايمز” أن هذا الحيز الإشكالي في مكافحة نشاط حركات المقاومة، مثل “حماس”، و”حزب الله”، أرّق الجانب الإسرائيلي منذ عام 2015، متوقفة عند لجوء جماعات مؤيدة لـ “إسرائيل” قبل نحو عامين لمقاضاة شركة “فيسبوك” أمام القضاء الأميركي، بتهم تتصل بالسماح لمنظمات معادية لها باستخدام الموقع المذكور.
وفي خضم هذا الجدل حول دورها، تواجه شركات التواصل الاجتماعي مشاكل قضائية وقانونية في دول أخرى، على خلفية مزاعم توظيفها من قبل منظمات متطرفة، ذلك أن الاتحاد الأوروبي يدرس فرض عقوبات، وغرامات مشدّدة بحق تلك الشركات في حال تساهلها حيال المحتوى المصنّف “إرهابيًا”.
من جانبه، يؤكّد رئيس قسم “مكافحة الإرهاب” في “فيسبوك” ، بريان فيشمان أن شركته لا تتساهل مطلقًا مع أي “جماعة إرهابية”، زاعمًا أن الشركة نجحت في حذف 99 بالمئة من محتوى تنظيمي “القاعدة”، و”داعش” عن شبكتها، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وأوضح فيشمان، أن منشورات “حزب الله” يمكن لها أن تتلافى تدابير الحجب، من الناحية التقنية، لأنها لا تتضمن تهديدات مباشرة بالعنف، خلافًا للتنظيمين المذكورين، مقرًّا بأن “الحقيقة الصريحة هي أن إزالتها أمر بالغ الصعوبة”.
إلى ذلك، تشير إحصائيات موقع “تويتر” إلى أنه تمكن من إغلاق ما يزيد عن 200 ألف حساب بسبب مزاعم تتصل بـ “دعم الإرهاب” في النصف الأول من 2018، فيما يصرّح مسؤولون في شركة “يوتيوب” أن الشركة تمكنت من إزالة قنوات على شبكتها، بدعوى “الترويج للعنف” وتهم “دعم التطرف والإرهاب”.
وتذهب الصحيفة الأميركية إلى أن الشركات المالكة لمواقع التواصل الاجتماعي، بذلت جهودًا حثيثة لمنع “حماس”، و”حزب الله” من استخدام منصاتها، وذلك من خلال إنشاء فرق متخصصة في إدارة المحتوى والذكاء الاصطناعي، لافتة إلى أن التنظيمين واصلا النشر عبر تلك المنصات.
وتشير الصحيفة الأميركية إلى أن الشركات المشار إليها، لم تأخذ قدرات المنظمتين على التلاعب بمنصاتها في عين الاعتبار، مضيفة أن كلًّا من “حماس” و”حزب الله” نجحا في صقل إستراتيجياتهما الإعلامية على منصات التواصل الاجتماعي، بهدف تعزيز وجودهما على الإنترنت.
وبحسب الصحيفة، فإن “حزب الله”، وعلى الرغم من عدم امتلاكه حسابات رسمية على منصات التواصل الاجتماعي الواسعة الانتشار مثل “فيسبوك”، و”تويتر”، فهو يحضر فيها بشكل كبير من خلال “قناة المنار” التلفزيونية التابعة له، حيث يتابع القناة على تويتر قرابة 500 ألف شخص. وعن حضور الحزب اللبناني على موقع “يوتيوب”، فإنه من السهل العثور على محتوى “المنار” عليه، بما في ذلك العديد من الخطب لأمينه العام السيد حسن نصر الله. وتبين أبحاث جديدة لمحتوى “يوتيوب”، ظهور محتوى قناة “المنار” باللغة العربية في أكثر من 37 ألف نتيجة بحث، بعضها حصد عشرات الآلاف من المشاهدات على مدى سنوات.
وبخصوص “حماس”، تتوقف “نيويورك تايمز” عند ما تتمتع به حماس من حضور واسع مماثل على شبكات التواصل الاجتماعي، ذلك أن لدى العديد من قادتها حسابات شخصية على مواقع “تويتر”، و”فيسبوك”، ينشرون فيها التعليقات إلى جانب الصور ومقاطع الفيديو. كما أن لدى “قناة الأقصى” التابعة للحركة، حسابًا على “تويتر” و”فيسبوك”، وكذلك “إنستغرام”، حيث تنتشر الوسوم “الهاشتاغات” المؤيدة لحركة المقاومة الفلسطينية إلى جانب عدد كبير من الصور، ومقاطع الفيديو. وتلفت الصحيفة إلى أن “وجود حماس على تلك المواقع يتعزز إبان فترات التصعيد مع إسرائيل”، مشيرة الى نجاح “حماس” في توظيف الشبكة العنكبوتية للإيقاع بجنود صهاينة عبر ما عرف “عملية القلب المكسور”.