عندما هتف سماحة السيد حسن نصر الله في احتفال النصر الكبير على العدو في 22 أيلول 2006 “يا أشرف الناس وأطهر الناس وأكرم الناس”، كان يعبّر حقيقة كيف ينظر عقل المقاومة تجاه بيئتها. فكل الانتصارات مرتكزة على جناحين: العمل الميداني والناس، وبالتالي لا يمكن للمقاومة أن تنتصر دون أن تكون هاتان الركيزتان متكاملتين.
هذا الجمهور الذي يمكن القول إنه تعرض لأكبر عملية تحريض ضده في التاريخ، خاض مع المقاومة منذ انطلاقتها عدة أشكال من الحروب مع العدو، من الحرب العسكرية الكبرى التي كانت آخرها حرب تموز 2006 والتي خرجت المقاومة بعدها كقوة إقليمية واعتبرها العدو الإسرائيلي تهديدًا وجوديًّا لكيانه، الى حرب الاستنزاف التي كان آخر وجوهها داعش، الى الحرب الأمنية المستمرة، فالحرب الاقتصادية التي تتجلى حاليًّا بالأزمة بأكبر صورها، وصولًا الى الحرب الناعمة بكافة أشكالها والتي يشكل الإعلام أحد أبرز أدواتها، ففي هذه الحرب فقط تتراوح الأرقام المعلنة تجاه ما صرفته الولايات المتحدة وحلفاؤها بين 20 و30 مليار دولار.
ولعل قراءة موضوعية لحجم التضليل والضخ والتحريض الذي تعرض له هذا الجمهور غير مسبوق في التاريخ، فأن يتم صرف هذا القدر من الأموال ورغم ذلك ثبت الجمهور وصمد في كل الظروف الى الحد الذي يئس العدو عنده من تحقيق اختراق فيه وقد عبر أحد قادة المحور المعادي عن هذه الحقيقة المرّة عندما قال قبل عدة أشهر: أيها الشيعة: اللبنانيون بانتظاركم، وما تعني هذه العبارة من عدم قدرة على تحقيق انجاز وشرخ داخل البيئة التي أصبحت بنظر الخصوم والاعداء كتلة صلبة عصية على الاختراق.
في المعركة العسكرية المباشرة كانت يد المقاومة مطلقة ومفتوحة، ورغم أنه لم يكن هناك إجماع يومًا على المقاومة لكن العمل في الميدان العسكري وضد العدو الإسرائيلي من الصعب التشويش عليه خاصة إذا كان يحقق الانتصارات، أما في مواجهة الحرب الناعمة فتتنوع الجبهات في هذه الحرب، وتتشابك الجبهة السياسية الإعلامية وأدوات المعركة فيهما تختلف.
ففي السياسة الداخلية الحديث يتغير تمامًا، الاعتبارات السياسية والخطوط الحمر التي نادرًا ما كانت موجودة في الصراع مع العدو أصبحت حاضرة في كل تفصيل، ومعها أصبحت كل حركة إعلامية محكومة بالسقوف السياسية والتوازنات والى ما هنالك، وهنا اختلف المشهد، ففي وقت كان العمل السياسي للمقاومة تحكمه مجموعة من المبادئ من حفظ المقاومة والوحدة الوطنية والإسلامية، والسلم الأهلي، كانت استراتيجية العدو تعمل لكسر كل هذه المبادئ، فهدفه هزيمة المقاومة ومن أجل ذلك أجج الفتنة المذهبية وسعى لتعزيز الشرخ الوطني، وكان يعمل ليل نهار لجر المقاومة الى مستنقع الحرب في الداخل عله ينزع الغطاء عن شرعيتها.
حكمت عقل قيادة حزب الله في مقاربة السياسة الداخلية منهجية الاحتواء والصبر وتقديم الأهم على المهم والعمل للحفاظ على المبادئ والأهداف، فلا مانع من خسارة بعض النقاط في الإعلام مقابل تحصين المقاومة وحماية الوحدة والسلم الأهلي. في المقابل كان العدو يعمل على ثلاثة محاور: منع إعلام المقاومة من التواجد في المعركة، فكان المنع من التواجد في الأقمار الصناعية ومنع حضوره الفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي، وشراء ذمم المؤسسات الإعلامية، والضخ والتحريض الهائل والمستمر على هدف واحد هو تشويه صورة المقاومة والتحريض عليها وتحميلها مسؤولية كل كبيرة وصغيرة.
ومن المضحك أن خطاب منظمات المجتمع المدني السياسي التي تحمل لواء التغيير يتلخص بعنوان واحد: الهجوم على حزب الله، ويتم توزيع الأدوار فيما بينهم حول مفردات الخطاب. والملفت أنه نادرًا ما يتم تسمية أحد من رموز السلطة التي حكمت لبنان أو مهاجمته بالاسم وهي من المفترض المسؤولة عن الانهيار المالي الذي حصل بل عند الحاجة يتم اللجوء الى مفردة السلطة التي يحميها حزب الله.
دور البيئة في معركة المقاومة الإعلامية في ظل حجم التحريض والضغط الإعلامي الذي يتعرض له لدرجة لا يمكن أن تحتملها أي جماعة، ولكن مع ذلك فبوجود منصات التواصل الاجتماعي التي جعلت من كل شخص يمتلك وسيلة إعلامية (بغض النظر عن عدد الجمهور المستهدف عشرات كان أم آلافًا) وقادر على نشر أو إعادة نشر محتوى معين، وانطلاقًا من أن البيئة نصف المعركة لا بل يمكن أن تكون حصتها أكثر قليلًا في هذا الجانب فإن أي سلوك انفعالي حكمًا ستكون نتيجته سلبية على المقاومة بشكل عام.
فالعدو يعمل على إطلاق حملات تضليل في كل يوم، ومن أهداف تلك الحملات تحقيق أكبر قدر من الضغط بأكثر من اتجاه منها الدفع باتجاه قرارات غاضبة تجاه حليف هنا وحليف هناك ما أدخل المقاومة عدة مرات في حرج سياسي في أوقات حساسة وضاغطة، أو جر الجمهور الى حيث يرغب في التفاعل مع قضية معينة بدل أن يكون مبادرًا تجاه اصل الموضوع. وهنا نذكر على سبيل المثال عندما تم الحديث عن التفاوض غير المباشر مع العدو الإسرائيلي لترسيم الحدود البحرية فذهب “الترند” نتيجة عمليات التضليل للحديث عن شكل الوفد وطبيعة التفاوض بدل أن يكون الحديث هجوميًّا بأنه لولا المقاومة لما كان هناك تفاوض من أساسه ولكان العدو سرق الغاز ولم نستطع فعل شيء.
كما يعمل العدو عدة مرات على تفريغ الإنجازات من خلال تضخيمها؛ فعلى سبيل المثال أيضًا عند حدوث عملية ما يلجأ لنشر معلومات عن عدد كبير جدًّا من الإصابات، وبما أن الناس مفطورة على تصديق ما ترغب به فيتم نشر المعلومات المضللة، وعندما تظهر النتائج بدلًا من أن يكون الحديث عن أصل الإنجاز يصبح الحديث عن الإخفاق في تحقيق النتائج التي نشرتها المعلومات المضللة. ولن نتحدث هنا عن فكرة اعرف عدوك وضوابطها ودور الاستخدام غير المحترف لها في عمليات التضليل وعن الحسابات الوهمية ودورها وطريقة عملها، فلربما يأتي الكلام عنها في مقال آخر.
خلاصة القول إن بيئة المقاومة تتحمل اليوم مسؤولية كبرى في المعركة الإعلامية، فهي شريكة كاملة في هذه الجبهة وإن أي سلوك تتخذه يحسب على المقاومة، ولا فارق هنا بين خطاب رسمي أو غير رسمي، فالعدو ينظر إليها كما أسلفنا أنها كتلة صلبة واحدة، والقاعدة التي يجب الانطلاق منها أن كل معلومة تصل عبر مواقع التواصل كاذبة حتى يثبت صدقها وليس العكس.