يمثل إعلان الشراكة الصينية – الروسية بداية “حقبة جديدة” في العلاقات الدولية، حسبما ورد في البيان المشترك الصادر عن قمة الرئيس الصيني شي جينبينج ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في الرابع من الشهر الحالي، إذ أكد هذا البيان على تجديد دعم الصين للمطالب الأمنية الروسية، من أجل حل الأزمة الأوكرانية المتصاعدة في الشهور الأخيرة، مشددًا على انضمام بكين إلى موسكو في معارضة توسع الناتو مستقبلًا.
ورغم أن البيان المذكور لم يشر صراحة إلى أوكرانيا، لكنه اتهم حلف شمال الأطلنطي (الناتو) بتبني أيديولوجية الحرب الباردة، مطالبًا بوضع حدّ للهيمنة الأميركية على النظام الدولي، وبالتمسك بمبدأ “أمن واحد لا يتجزّأ”، والذي يستند إليه الكرملين ليطالب بانسحاب حلف الناتو من محيط روسيا.
يستطيع المراقب للعلاقات الصينية – الروسية المتنامية ملاحظة وجود تنسيق استراتيجي متزايد بين الطرفين ما يثير، بالإضافة إلى القلق، الحفيظة لدى قوى عديدة اقليمية ودولية ترى في هذه العلاقات خطرًا يتهدّد نفوذها خاصة أنّ التعاون بين الطرفين يشمل العديد من القضايا ابرزها: التسلّح العسكري، والتنسيق السياسي و الدبلوماسي في القضايا الدولية، والتعاون المشترك في مجالات البحث والتطوير، بالإضافة إلى التجارة المتبادلة.
تعدّ سياسات الضغوط والعقوبات الأميركية تجاه الصين وروسيا أحد أهم العوامل التي أدت لدفع الجانبين إلى تعزيز علاقاتهما وإنشاء أطر ثنائية وإقليمية وحتى دولية رديفة للأطر التقليدية.
تسعى كل من الصين وروسيا إلى تشكيل تحالف إقليمي ليكون صدًّا في وجه الاختراق الأميركي للمنطقة، خاصّة في المناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي سابقًا والتي فرط عقدها إثر انهياره. وقد عمدت الدولتان إلى تأسيس بعض المنظّمات الإقليمية وتفعيل البعض الآخر لهذا الغرض ومنها، بل وأهمّها، مجموعة شنغهاي.
في تموزيوليو من العام 2001 قامت الصين وروسيا بتوقيع اتفاق تعاون ثنائي لتوثيق علاقات الدولتين خلال العشرين سنة المقبلة. وتحلّ هذه الاتفاقية الجديدة مكان تلك التي تمّ توقيعها أيام ماو تسي تونغ وستالين التي شكّلت حلفًا في العام 1950 وأصبحت غير واقعية فيما بعد في نهاية الستينيات في إثر التوتّر الذي حصل بين البلدين وفسخ علاقاتهما الثنائية.
وقد جاءت هذه الاتفاقية الجديدة آنذاك لتدعم “الشراكة الاستراتيجية” بين البلدين والقائمة منذ نهاية التسعينيات ولا سيما والدولتان قلقتان من التحوّل في النظام العالمي الجديد الذي تسيطر عليه الولايات المتّحدة وحلفاؤها الأوروبيون.
فمؤشرات العلاقة الاقتصادية بين الجانبين تسير في اتجاه إيجابي، حيث ازداد التعاون بينهما سواء على المستوى الثنائي أو في الأطر الإقليمية والدولية التي ينتميان إليها، ويبرز ذلك بتوقيع اتفاقيات الشراكة الإستراتيجية، والتعاون الرقمي، وإطلاق مشاريع البنية التحتية الداخلية والمشتركة، وتعزيز قطاع المشاريع المالية المشتركة، والغاز الطبيعي، بالإضافة لمشاريع الممرات البرية والبحرية كمشروع “ممر بحر الشمال”.
تحمل زيارة الرئيس الروسي نكهة خاصة، ولاقت نتائجها المعلنة كثيرًا من الاهتمام، فمن جهة تعتبر هذه الزيارة الأولى التي يلتقي فيها الرئيسان وجهًا لوجه منذ جائحة الفيروس التاجي، أما أهميتها فتنبع من النتائج الكثيرة والمتنوعة التي رافقت هذه الزيارة وكان أبرزها البيان المشترك الذي أعلن فيه الطرفان دخول العلاقات الدولية عهدًا جديدًا.
لقد اتهم البيان الصادر عن القمة الصينية – الروسية الولايات المتحدة بإشعال الاحتجاجات في هونغ كونغ، وتشجيع الاستقلال في تايوان، منددًا بـ”التأثير السلبي لاستراتيجية واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على السلام والاستقرار في هذه المنطقة”، لإنشاء تحالف “أوكوس” العسكري بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، كونه يزيد من خطر سباق التسلح بالمنطقة ويخلق مخاطر انتشار الأسلحة النووية. كما أكد البيان أيضًا على أن علاقة بكين وموسكو الجديدة “تفوق أي تحالف سياسي أو عسكري في زمن الحرب الباردة”، مشيرًا إلى أن “الشراكة بين الدولتين ليس لها حدود، وتشتمل على عدة جبهات من بينها الطاقة والفضاء وتغير المناخ والذكاء الصناعي والتحكم في الإنترنت”. وفي نفس الوقت، عبر البيان عن قلق الدولتين من خطط واشنطن لتطوير نظام الدفاع الصاروخي العالمي ونشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، داعيًا كافة القوى النووية إلى “التخلي عن عقلية الحرب الباردة”، وتقليص الاعتماد على ترسانتها النووية في سياساتها الأمنية، وسحب كافة أسلحتها النووية المنتشرة خارج حدودها.
الوثيقة التي تم نشرها تتألف من مقدمة يتلوها 4 أقسام موسعة. في قسمها الأول أعادت التأكيد على قناعة روسيا والصين الراسخة بعدم وجود نموذج واحد للديمقراطية يناسب الجميع في هذا العالم، ولذلك تمسك الإعلان بحق الأمم في اختيار النموذج الذي يناسب نظامها الاجتماعي والسياسي، وخلفيتها التاريخية، وتقاليدها وخصائصها الثقافية الفريدة. واعتبر الجانبان (روسيا والصين) أن محاولات البعض فرض «معايير محددة» من شأنه أن يؤثر على السلام والاستقرار العالمي والإقليمي.
أما أبرز ما جاء في قسمها الثاني فيمكن تكثيفه بأن كلًا من موسكو وبكين ترى أن التعاون على المستوى العالمي بات يشكّل أساسًا في التنمية، وخصوصًا عندما يجري هذا التعاون على أساس المصالح المشتركة للشعوب، وفي هذا السياق، جرى التأكيد مجددًا على ضرورة تدعيم الترابط بين مشروع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومبادرة الحزام والطريق، بهدف تكثيف الترابط بين منطقتي آسيا والمحيط الهادئ ومنطقة أوراسيا، والذي من شأنه بناء شراكة أوروبية آسيوية كبرى تصب في مصلحة شعوب القارتين.
اما القسم الثالث في هذا الإعلان فكانت له نكهة خاصة، وشكّل مضمونه مادة استفزازية للغرب ووسائل إعلامه، ففي هذا القسم أكد البلدان على مبدأ الأمن العام غير القابل للتجزئة، وأكدت موسكو وبكين دعمهما لمصالحهما الجذرية وسيادتهما ووحدة أراضيهما، ومعارضة تدخل القوة الخارجية في شؤونهما الداخلية. وفي هذا السياق، أعادت موسكو التأكيد على تمسكها بمبدأ «الصين الواحدة»، وأعلن البلدان رفضهما لتقويض الأمن والاستقرار في المناطق المتاخمة والمشتركة بينهما، وعزمهما مواجهة تدخل القوى الخارجية في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة تحت أية ذريعة، بالإضافة لمعارضة الثورات الملونة. وأعلنت الوثيقة رفض الصين وروسيا كلّ ما من شأنه تقويض الاستقرار الاستراتيجي العالمي، مثل توسع حلف الناتو، وتشكيل تحالف «أوكوس» الذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا. ودعا الرئيسان في الوثيقة كل القوى النووية إلى ضرورة تقليص الاعتماد على الترسانات النووية، وسحب كافة أسلحتها النووية المنتشرة خارج حدودها. وتطرقت الوثيقة إلى مبادرة الضمانات الأمنية الروسية. ودعا البلدان الولايات المتحدة للتجاوب مع المقترح الروسي بعد أن أكدت الصين دعم وجود نظام كهذا ملزم للضمانات.
أما أبرز ما جاء في القسم الثالث والأخير فهو تصميم روسيا والصين على التصدي لمحاولات مراجعة نتائج الحرب العالمية الثانية، وكل ما من شأنه تقويض النظام العالمي الذي تشكّلَ بعدها.
يشير بعض المحللين الى ان العلاقات بين البلدين قد وصلت إلى “أفضل مراحلها في التاريخ”. تجاريًا، أصبحت الصين أكبر شريك لروسيا منذ سنوات، وسجلت التجارة الثنائية، في عام 2021، مستوى قياسيًا جديدًا بلغ 147 مليار دولار. وعسكريًا، وقّع البلدان “خريطة طريق” لتوثيق العلاقات العسكرية في العام الماضي مع تكثيف التدريبات العسكرية المشتركة. ومع تصاعد الأزمة الروسية – الأوكرانية، وتهديدات واشنطن بفرض عقوبات اقتصادية “كاسحة” على موسكو، حال قيامها بغزو أوكرانيا، يتوقع كثير من خبراء العلاقات الدولية، أن تقدم بكين مساعدات اقتصادية “مهمة” لروسيا، منها على سبيل المثال توفير أنظمة دفع بديلة، وقروض للبنوك والشركات الروسية، وشراء المزيد من النفط الروسي.
ويفسر المراقبون الشراكة المتزايدة بين الصين وروسيا، بتنامي القناعة لدى زعيمي الدولتين بأنهما محاصران من جانب الغرب، الذي أصبح يسعى بكل قوة، منذ قدوم إدارة الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض في يناير 2021، لـ”شيطنة” الصين وروسيا. ومن أجل فك هذا الحصار، والتعبير عن رؤيتهما للعالم والترويج لها بقوة، يعتقد كل من الرئيسين الصيني والروسي أن الآخر هو أفضل “سند” له. ومما يؤكد على هذه القناعات ما كشف عنه البيان المشترك الصادر عن القمة الأخيرة بين شي وبوتين، خاصة فيما يتعلق بذهاب كل دولة إلى أبعد مدى، في دعم الأخرى، وبكل صراحة، في كل نقاط الخلاف الرئيسية مع واشنطن وحلفائها، وخاصة ما يتعلق بقضايا تايوان وأوكرانيا وتوسع حلف الناتو.