علي حجازي* – خاص الناشر |
يُستَخدَم الإعلام من قبَل الدوَل الاستعمارية، منذ نشأته، أَداةً للغَزوِ الثقافي والفكري، وله الدَّور الأبرز في خدمة دوَل الهيمَنة على العالم.
زرع الاستعمار في بلادنا الكيان الصهيوني، ضمن إطار مشروع السَطو الكامل على منطقتنا وسرقة مواردنا وخيراتنا. وظَهَرت في مقابله حركات مقاوِمة تهدف إلى التحرُّر وطرد الاحتلال وأدواتِه من المنطقة. خيضَت المعارِك العسكريّة الدامية، في مسار تراكميّ أفضى إلى إرساء قواعد اشتباك لا يمكن تخطّيها من قبل العَدوّ، ونوع من أنواع توازن الرّدع، يتألّق بأبهى حُلَلِهِ اليَوم في لبنان، عبر مقاومة حزب الله.
وعندما بات العدو عاجزًا عن القضاء على حركات المُمانَعة في الحرب العسكريّة (الخَشِنة) نتيجة ما ذكرناه من حالة توازن الردع القائِم، انتقل (الأعداء) إلى الخطة “ب”، القضاء على حركة المقاومة عبر الأدوات الناعِمة، والتي أطلق عليها سماحة السيّد علي الخامنئي عام 2009 عبارة “الحرب الناعِمة”.
يرتكِز أسلوب الحرب الناعمة على الجانب التدميري “المعنوي”، عبر تقويض اعتبار وقدسيّة المقاومة، وتشويه صورة مسيرتها وقادتها، وعزلها عن كيانِها الاجتماعي، ومحاصرتها بغية القضاء عليها. كلمة السِرّ الأولى لهذِه الخُطّة هي “الإعلام”.
لعبت وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والعالمية الدور الأساسي في هذه المعركة منذ العام 2005، واستطاعت المقاومة من خلالها منع العدو من تحقيق أهدافه التَشويهيّة المَقيتة. وعقب حراك 17 تشرين الأول عام 2019، بلغ الهُجوم الإعلاميّ أشُدّه، عبر وسائل إعلام مُمَوَّلة من الدول التي تُعادي التيار المقاوِم وتنوي القضاء عليه، بغية إتاحة الجَو المناسِب لانتزاع القضية من عقول شعوب المنطقة وإقامة السلام الشامل مع دولة الكيان الصهيوني المَزعومة، إضافةً إلى إعلاميّين وصحافيين مُرتَزَقة يلعبون دور رأس الحربة في ساحة الرأي العام عبر البرامج التلفزيونية والمقالات وبرامج التواصل الاجتماعي. وما زال هذا الإعلام في حالة هجوميّة تصاعديّة حتى يومنا هذا.
لم يبقَ حدث منذ 17 تشرين لَم يُستَغَل ضِدّ المقاومة، ولم يترك الأعداء والخصوم لا صغيرةً ولا كبيرةً لم يستغِلّوها في مسار أبلَسة تِلك المقاومة وعزلها.
الأسلوب التَدميري هذا، يهدف، بعدما باتَت المقاومة تشكل الخطر الوجوديّ الأول على إسرائيل، إلى القضاء عليها عبر انتزاع المُحتوى الثقافي المقاوِم من وعي الشعوب، وتدمير عقيدة الثورة والصمود، وإحلال ثقافة الخضوع والارتهان والاستسلام محلها.
جدليّة الإعلام المُقاوِم
يكثر الحديث من قِبَل شريحة مُعتَدّ بها في الآونة الاخيرة عما يَصفونه بِضعف الإعلام المقاوِم في مواجهة مشاريع الأعداء، من دون مراعاة أدنى معايير التفاضُل الواقعي الذي يحكم الحالة العالمية اليوم، في عالم تقع موارده ومقدّراته في جانب واحد، وهو جانب الدوَل المُهَيمِنة والاستعمارية. اليوم يستطيع العدوّ أن يحجب بثّ القنوات الإعلامية متى يشاء، وأن يُعطِّل المواقع الإلكترونية التي يُريد. وبالتالي، فإنّه من غير المنطقي أن نقارن القدرة الإعلامية على أساس المقدّرات المادية التي تمتلكها القوى المعادِية، وهي (الأخيرة) التي تمتَلِك الستالايت ووسائل التكنولوجيا والتقنيّات في العالم. وجه الاعتبار الأول يجب أن يكون جانب الفعالية، مدى فعالية وسائل الإعلام المقاوِم في مواجهة الوسائِل المعادية، وبالموارِد المُتاحة، ضمن مسار إحباط مخطّطات العَدوّ الناعِمة ومنعه من تحقيق أهدافه التي ذكرناها سابقًا، والذي يوجِب إرساء الفكر المقاوِم الثَّوري الطامِح دائمًا إلى التحرّر. وهنا يكمن دور الإعلام المقاوِم في دحض سرديّات الإعلام المُناهِض، وإعادة تصويب المسارات المُحَرَّفة وتقوية الجانب المَعنوي لشعوب المقاومة. وفي مهمة أخرى، يقع على عاتق إعلام المقاومة، بكل أشكاله، إيضاح مكامن التحرّر الحقيقي وأدواته ووسائله، بعد توضيح الدور التي تقوم به الدول التي تأسِر حرية شعوبنا وتمنعها من النهوض.
في الحروب العسكرية مع العدوّ الصهيوني، لا يُقاس الانتصار بنسبة الخسائر الماديّة، في مقابل عدوّ يمتلك أكثر الأسلحة الفتّاكة تطوّرًا في العالم، بل بالقدرة على الصمود لِكَسر إرادة العدو وإحباط مكائِدِه وأهدافِه، ويبقى الهدف الأسمى التحرير الكامل للأمة، والذي يحتاج بالدرجة الأولى إلى المحافظة على المقاومة.
كذلك في الميدان الإعلامي، المهمّة هي منع العدو من تحقيق سطوَة ثقافة الوَهن والضعف واليأس، التي يحاول بكل قوّته بثّها في مجتمع المقاومة مستغلًّا الانهيار المالي والاقتصادي الذي يشهده لبنان في الفترة الأخيرة، وبثّ روح المقاومة في نفوس الامّة المُستضعَفة، والإشارة إلى جدواها الدائِمة التي تمثّل الشرط الاول للعيش الكريم.
وللتذكير دائمًا، نحن الفِئة المُدافِعة، وبالتالي فإن أهدافنا حتمًا تختلف عن أهداف الفئة المهاجِمة. نحن لا نريد غزو أحد، لا عسكريًا ولا ثقافيًا ولا سياسيًا، جلّ أهدافنا أن تتحرّر أوطاننا وتصبح مستقلّة عزيزة، وهذا ما نحارب لأجله بكل الوسائل المتاحة، من دون يأس ولا إحباط.
هدفنا أن نمنع العدو من السيطرة على عقولنا وتسيير أفكارنا نحو مبتَغاهُ الاستعماري، أن نسلّح العقول بسلاح الوعي والمعرفة ونرسّخ الثورة في سلوك شعوبنا من دون يأس أو ضعف. أن نشحذَ هِمَمَ شبابنا كي يكونوا على معرفة بهدفِهِم الأسمى وعلى استعداد للتضحية من أجله، ألا وهو (الهدف الأسمى) “الحريّة”، ليست الحرية المادية فحسب، بل حريّة الفكر والإبداع والعلم والثقافة.
بعض الناس المحبّون وصل بهم الأمر أن يلوموا إعلام المقاومة على عدم سلوك مسار الإعلام الغربي والمُعادي، بمعنى آخر هم يطالبون إعلامنا بالتخلي عن سماتِه القِيَميّة والأخلاقيّة. ربما نسَوا أن إعلام المقاومة يشكّل مصدر المعلومة الموثوق للصديق والعدو، وكان السكان المُغتَصِبون لِفلسطين المُحتلّة، الإسرائيليّون، يصدّقون قناة المنار أكثر من قادة جيشهم إبّان حرب تموز عام 2006. عندما نتخلّى عن مبادئنا فعن ماذا ندافع؟ ولأجل ماذا؟ عندئذٍ نكون قد خسرنا المعركة.
في معركة “سيف القدس” منتصف العام الماضي، ساهم الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي في ايصال المظلوميّة الفلسطينيّة إلى كل العالم. شاهد من هم في أقاصي الأرض جرائم الاحتلال الإسرائيلي ومجازره في حق الأطفال والنساء والشيوخ، وتعاطفوا مع المقاومة الفلسطينيّة باعتبارها تدافع عن أهلها وناسِها في مواجهة الإجرام الصهيونيّ.
أضحَت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم مسرحًا لـ”صراع القضيّات”. جمهور المقاومة يشارك اليوم عبر وسائل التواصل في معركة ثقافيّة حقيقيّة، بمواجهة الدعاية الأميركية والبروباغندا التضليليّة التي تنشرها بين أرجاء الفئات المجتمعيّة اللبنانية خدمةً لأهدافها. إعلاميّو المحوَر المُمانع فعّالون اليوم على المسرح الافتراضي أكثر بكثير من إعلاميّي المحور المقابل، وهم يشكّلون الثقة في أي معلومة تُنتشر في الارجاء. جمهور المقاومة يبلي بلاءً حسنًا في الدفاع عن قضيّته وتكذيب الافتراءات التي تستهدف مقاومته.
في إحدى جلسات تطبيق club-house، عبّر الإعلامي سامي كليب عن إعجابِهِ بقناة BBC البريطانيّة على أساس أنّها قناة “معتدلة” ولا تنتمي لأي طرف (بحسب قوله)، مع العلم أن القناة المذكورة تتّخذ سياسة البلد الذي تنتمي إليه، وهي تُبدي انحيازًا تامًا للعدو الإسرائيلي في معركته ضد الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينيّة، إضافة إلى بثّ أفكار تدميرية للقضية، كأن معركة سيف القدس مثلًا هي حرب أهلية، ذات أحقيّة إسرائيليّة. الأستاذ سامي، الذي يُعتبر من صفّ النُخب الإعلامية، ويتأثّر بآرائه الكثير من الناس، يُمكن أن يُحدِث مسارًا لدى الرأي العام الشبابي مُعجَب بتلك القنوات الأجنبية التي تتّخذ صبغة حياديّة، بينما هي في الواقع تبثّ أفكار الدول التي تتبع لها، وتمثّل وجهة نظر تلك الدول ودعايةً تَرويجيّةً لمشاريعها، وبالتالي هي تشارك في معركة كَيّ الوَعي التي تُشنّ على عقول الشعوب المقاوِمة التي لا زالت تحمل قضاياها وتحارب لأجلها، من أجل تشتيت الرأي العام وتحريف صوابيّة مساراته.
تتربّع قناتَا المنار والميادين اليوم على رأس القنوات العربية التي تدعم القضية الفلسطينيّة وقضايا المقاومة في المنطقة، والأخيرة لها جمهور غربي وعربي عريض، وموقعها الإلكتروني يتضمّن العديد من النُخب الصحافية التي تكتب للقضيّة وتصوّب الوعي العام المقاوِم نحو المؤامرات الاستعمارية وسبل المواجهة معها.
مقال واحد في صحيفة الأخبار يثير معلومة أو قضيّة جدليّة كفيل بأن ينتشر في أرجاء المجتمع اللبناني وعلى وسائل التواصل ليُصبح مادة متداولة، بينما لا ترى تواجدًا لباقي الصحُف اللبنانية اليوم في ساحة الرأي العام إلا في ما ندر من الحالات.
إضافةً إلى عشرات المواقع الإلكترونية والكُتّاب والناشطين، كلهم يصبّون جهدهم في تفكيك مؤامرات الأعداء وتشريح مكائده أمام الرأي العام، وتسليط الضوء على أدوات الحصار الذي يواجه وطننا، والذي يشكّل الحائز الأساسي للأزمة التي تعصف في لبنان.
لعلّ من أبرز معالم نجاح الإعلام المقاوِم اليوم، أن فكرة الصراع القائم حاليًا تتجلّى في وعي أغلبية الشعب العربي عمومًا، والشعب اللبناني بشكل خاص. حتى لو لم يبوح خصوم المقاومة بذلك، فإنهم يضمرون بمعظمِهم أن الصراع القائم اليوم يهدف إلى سحق المقاومة، ومن الطبيعي لهذه الفئة أن تنفي ذلك، كونها تشكّل بشكلٍ أو بآخر أداةً في متناول المشروع المعادي. أما الذين يحسبون أنفسهم في منأى عن هذا الصراع، وخصوصًا الجماعات الرّمادية التي ظهرت عقب أحداث ١٧ تشرين، فإنهم يتعامون، عمدًا، عن طبيعة الصراع القائم، ويحاولون حصر الأزمة الحالية بالأسباب الداخلية فقط، وهم يشاركون بشكلٍ أو بآخر، عبر هذا التعامي، بتحريف مسار الإصلاح والنهوض.
استطاع إعلام المقاومة، عبر كافة أشكاله، وخصوصًا على منصات الإعلام الجديد، عبر النُخَب والمناصرين، مدَعّمين من وسائل إعلام المقاومة المرئية والمسموعة والمكتوبة، بإظهار مكامن الفِتَن التي يصنعها الأعداء، ومسالِك التضليل التي يتّبعونها، والتحريف الذي يُصنع في مطابخ وسائل الإعلام التي تعمل وفق أجندة الدول الخارجية.
نحن نحتاج بالدرجة الأولى إلى الثقة بالنفس، الثقة بقدراتنا ونُخبنا وإعلاميّينا. علينا أن نزرع في عقولنا أنه باستطاعتنا مقارعة الأعداء في الميدان الإعلامي، وهذا وجوب النجاح والتقدّم في هذه المعركة، مستَنِدين دائمًا الى قوّة عسكرية تكاد توازِن الكَمّ النَوعي لما يمتلكه الكيان الصهيوني، وباعترافه هوَ.
لا يجوز أن نمشي خلف السرديّات التي تبعث باليأس في نفوس شعوبنا، وتتحدّث دائمًا عن ضعف إعلامنا، وتسلّط الضوء ليلَ نهار على مكامن الخلل والفشل، من دون الأخذ بعَين الاعتبار أي مسار ايجابي يحدث على حلبة الصراع الإعلامي.
هي ليست معركة وسائل إعلام وموارد مادية، إنّما معركة وعي وفِكر وثقافة يمتاز بها مثقّفونا ونُخبنا وناسُنا العاديّون. وهي، والأهم، معركة متواصلة منذ قرن في الحدّ الأدنى، لم يستطِع من خلالها الأعداء تفتيت مكوّناتنا الثقافية، واستطعنا نحن، دائمًا، بالدفاع عن معتقداتنا وقضايانا بالطُرُق المناسِبة والمُتناسبة.
*ناشط لبناني