لم تعد الحروب الكلاسيكية أمرًا مرغوبًا لدى الدول الاستعمارية والمنظمات ذات الطابع الثوري والتغييري، وذلك مرده للعديد من الأسباب التي تجعل هذا النوع من الحروب أكثر كلفة وأقل نجاعةً من غيره. لذا شهدنا خلال العقدين الماضيين استخدام نهج جديد في غزو الخصوم والأعداء بعيدًا عن أدوات الحرب الصلبة.
لعل التأثير على الرأي العام وقناعاته أكثر هذه الاساليب تأثيرًا وخطورة في آن، كونها تجعل من الحقيقة وهمًا ومن الأوهام حقيقةً ثابتة لا لبس فيها. لذا فإن السيطرة على العقول واللاوعي لدى الرأي العام يعتبر بمثابة القنبلة النووية التي تفتك من خلالها الدول والمنظمات بعضها ببعض دون الحاجة الى سيل من الدماء والبارود.
أمام هذا المشهد كان لا بد من صناعة أساطيل إعلامية من كل أشكال وأنواع العمل الدعائي والإعلامي سياسيًا، اجتماعيًا، فنيًا، ثقافيًا وغيرها من الميادين التي تؤثر وتتأثر بالرأي العام. لذا فإن أغلب هذه الأساطيل الكبرى والممولة بمليارات الدولارات تسبح في الفلك الغربي عمومًا أو ما يوازيه في بلداننا العربية، وليس من الخفاء بمكان أن الضخ الإعلامي لهذه الأساطيل يرمى بوجه الحكومات والمنظمات الممانعة للمشاريع الغربية والأميركية في منطقتنا العربية.
ولعل كي الوعي الذي مارسه كيان الاحتلال “الإسرائيلي” إبان إعلان قيامه على أرض فلسطين المحتلة أسس لفكرة أن الجيش “الإسرائيلي” لا يقهر وتم تكريس مقولة العين لا تقاوم المخرز لتجعل من فكرة مقاومة هذا الجيش “الجبار” أمرًا مستحيلًا وغير ممكن للتحقق ابتداءً. كما قامت أسطورة هذا الجيش على نشر أساطير التفوق العسكري والبطش؛ فعلى سبيل المثال مجزرة دير ياسين في فلسطين المحتلة التي أشاع جيش الاحتلال أنه قتل فيها الآلاف من سكان المدينة هو أمر غير صحيح، فسكان المنطقة حينها لم يتجاوز عددهم المئات بين رجال ونساء، لكن تضخيم الحدث كان مقصودًا لإظهار القوة والبطش وعدم الخوف من سفك الحد الأقصى من الدماء، وهو ما يفعله جيش الاحتلال منذ نشأته. لا نقول هذا لتبرئته من المجازر لكن لتبيان نوع الدعاية التي استخدمها الصهاينة في بث الرعب لدى الرأي العام وهو ما كُسر بفعل المقاومة المسلحة في فلسطين ولبنان.
مقاومة هذا النموذج كانت تحتاج الى جناحين أساسيين لا يمكن هزيمة النموذج الغربي إلا من خلالهما مجتمعين: المقاومة المسلحة لرأس المشروع الغربي المتمثل بكيان الاحتلال، والرواية الإعلامية الخاصة التي تدحض الرواية الصهيونية وتبين نفاقها.
من هنا كانت المقاومة في لبنان وفلسطين تسعى لتقديم نموذج خاص إعلاميًا يسعى الى بناء الوعي الجمعي لدى جمهورها لتمكينه من مقاومة الرواية الصهيونية والانتصار عليها. رغم عدم كفاءة المعركة عسكريًا والفارق الهائل بالقدرات والمقومات الإعلامية بين النموذجين، إلا أن المقاومة عملت منذ الطلقات الأولى على تأسيس هيئات ومؤسسات تتعاطى بالشأن الإعلامي على اختلاف أشكاله المرئية والمسموعة والمكتوبة ولا تزال، فضلًا عن بداية دق المسمار في نعش المشروع الصهيوني من خلال مواقف أطلقها قادة المقاومة منذ نشأتها تؤسس لنظرية أن العين تقاوم المخرز وتنتصر عليه، وأن ما بات يعرف اليوم بمفهوم الصبر الاستراتيجي هو مفهوم ناجع وفعال على المدى البعيد.
الحديث عن فائض القوة الذي يناقش فيه العديد من المراقبين حول نموذج المقاومة في لبنان يمكن أن يرد الى أمرين، الأول يتمثل بالقناعة الكبيرة التي تم زرعها وتحقيقها لدى مجتمع المقاومة على امتداد الأجيال من ثمانينيات القرن الماضي الى يومنا لحالي، بأن هذا النموذج لديه القدرة والإمكانات على هزيمة المشروع الصهيوني في أي مواجهة قادمة، وهو مؤشر نجاح عالٍ تمكنت المقاومة من تحقيقه بفعل العمل العسكري والإعلامي والثقافي، وهو ما يظهر لدى أجيال ربما لم تشهد معركة حقيقية تخوضها هذه المقاومة لكن حجم اليقين بالانتصار كافٍ في وعيها لتحقيق النصر على المشروع الصهيوني.
والثاني تعمل المقاومة على تحقيقه من خلال الحرب الإعلامية والنفسية التي تخاض مع أدوات المشروع الصهيوني. كما أن شخص الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله شكل في عدوان تموز 2006 مثلًا أحد أهم عوامل الانتصار من خلال المواقف التي أطلقها منذ اليوم الأول للحرب مرورًا بالمفاجآت التي تحققت خلال الحرب وصولًا الى عملية التبادل بالتفاوض غير المباشر مع الاحتلال كما وضع أطرها سماحته في بداية الحرب.
والأمثلة بعد ذلك كثيرة في المفاصل السياسية الأساسية التي مر بها لبنان وصولًا الى مشاركة المقاومة في الحرب على سوريا والمعادلات التي تم إرساؤها خلال الحرب والتي توجت بمعادلة توازن ردع ورعب لم يشهد لها الصراع العربي مع كيان الاحتلال من مثيل منذ تأسيس الكيان.
أمام هذا المشهد هل يمكن القول إن المقاومة نجحت في تأسيس نموذجها الإعلامي الخاص القادر على تحقيق الانتصار كما حققه نموذجها الثوري المسلح؟ وهل ما تم تحقيقه لغاية اليوم من خلال النموذج الإعلامي كافٍ للاستمرار بالتصدي للأشكال الجديدة من الحرب التي تخاض ضدها؟ ما يكفل تحقيق ذلك هو أداء هذه المقاومة من خلال تقديم الرواية الخاصة والمقنعة للرأي العام في دحض ورد التهم التي تكال لها يوميًا من خلال المضخات والأساطيل الإعلامية المعادية من الداخل والخارج. أدوات رد هذا العدوان الجديد حاضرة من خلال تاريخ العمل السياسي لهذه المقاومة الذي يؤكد بالدليل عدم تورطها بملفات الفساد والإفساد في البلاد، لكن النموذج الإعلامي الحالي بحاجة إلى سبك الأسلوب والصيغة التي تجعل من هذه الرواية أمرًا ملموسًا قادرًا على إظهار براءة المقاومة، وتقديم نموذجها الإصلاحي الناجع لتكون كما كانت في كل الحروب التي خاضتها على مختلف أشكالها.