يواكب العالم تفاصيل إنقاذ الطفل المغربي الذي سقط في بئر عميقة. تصحب الأدعية والصلوات والتمنيات عملية انتشاله بكلّ اللغات وبكل الأديان. يتضامن الجميع مع قلق أمّه وتوتّر أبيه وخوف الجيران، وويل لمن قست قلوبهم عن الدعاء لطفل عالق في بئر ترابية بالنجاة. لكن، لهذه الإنسانية حكاية أخرى.
بدايةً، لا شكّ بأنّ الطفل ريان يستحق كما كلّ طفل (عدا الصهاينة) أن يتضامن لانقاذه والدعاء لنجاته كلّ أهل الأرض (عدا الصهاينة، مرّة ثانية). لكنّ الاستنسابية تلغي مصداقية الشيء. تلك القلوب التي خرّت باكية بداعي إنسانيتها لأجل ريان ما التفتت يومًا لآلاف الأطفال بآلاف الأسماء وهم يُقتلون في فلسطين وفي سوريا وفي اليمن، ولهذا، لا يمكن الوثوق بإنسانيتها وبأخلاقها. قلنا قبل قليل “عدا الصهاينة”. هي ليست استنسابية، هي صدق من يفهم معنى العداء الوجودي ويدرك أنّ الطفل الصهيوني، وإن كنّا لا نستهدفه إذا أتيح لنا، هو خارج نطاق قدرتنا على التضامن.
المهم، يتناسى غالبية المتضامنين في العالم كمّ وشكل الفاجعات التي يرتكبها هذا العالم بحقّ الطفولة في بلاد تعادي الأميركي. يصبح مشهد أشلاء الطفولة في اليمن مشهدًا لا يستوقف إلّا القلوب التي عرفت الحقّ وانتصرت له، ويصبح حرق الرضيع علي الدوابشة حيًّا في فلسطين أمرًا يُنسى، ويصير دم الأطفال المذبوحين على يد الوهابية في الشام خبرًا لا يستدعي التضامن.
حين نستنسب في التضامن “الإنساني” (للمرة الثالثة، عدا الصهاينة) يقتل الاستنساب إنسانيتنا. حين يصرّ العالم القاتل على وضع شروط ومعايير هذا التضامن، يسقط المتضامنون الخاضعون لشروطه ومعاييره. حين يشترط التضامن أن يكون المتضامن معه من غير من غضب عليهم الأميركي، يصبح تضامنًا كاذبًا، بشعًا.
ثمّة من يقول إنّ ما حدث لريان قد يكون مدخلًا لتوعية من لم يلتفتوا يومًا لأطفال آخرين. غير صحيح. لو سقط ريان في البئر نتيجة قصف أميركي أو “اسرائيلي” او سعودي-إماراتي في أيّ مكان من هذا العالم لما تجرّأ الكثيرون على ذكر اسمه. لو رمى ارهابيون ريان في البئر وذبحوا والده وسبوا والدته لما تضامن أيّ من هؤلاء. بل لو أمر مهووس خليجيّ برميه لما ورد اسمه في مقدّمات نشرات الأخبار المدفوعة سلفًا.
الذي جعل ريان محطّ أنظار العالم، ليس مأزقه ولا الخطر المحدق به، بل كون هذا المأزق وهذا الخطر هما قضاء وقدر لم يُصنعا بيد أميركية أو بيد توالي أميركا، وبالتالي يمكن تحويل قصّته إلى “ترند” يتداوله الناشطون دون مخافة أن يمسّ ترندهم بمعايير المنصات الافتراضية والتصنيفات الغربية والخليجية لما هو مسموح وممنوع.
الجميل في الأمر أنّ تضامن أهل الحب والحق مع ريان كان التضامن الأصدق؛ فهؤلاء لا يخافون في التضامن لومة القاتل. تهرع قلوبهم إلى طفل اليمن كما إلى كلّ طفل يُظلم أو يتألّم (عدا الصهيوني، للمرة الرابعة). هؤلاء فقط تُصدّق انفعالاتهم بانتظار خبر يسرّ قلبَي والدَي ريان. هؤلاء هم أجمل من اختبر وجع الخوف على طفل، ولذلك قلوبهم هي الأجمل إذا دعت لنجاة طفل.
سينجو ريان بإذن الله، وسيكتشف ربما حين يكبر أن الإنسانية التي تضامنت معه بمعظمها كاذبة، وأنّ الأخلاق التضامنية التي استحضرها أصحابها كانت وستظّل مفقودة لو كان ابن بلاد وأرض تعادي القتلة الظالمين.