لا تعدّ ظاهرة العنف الأسري جديدة في المجتمعات الإنسانية، بل هي من الظواهر الاجتماعية الأكثر خطورة وفتكًا منذ القدم، وقد شهدت في الآونة الأخيرة تفاقمًا ملحوظًا تحت أشكال وظواهر مختلفة وأكثر شراسة، كأحد أخطر أنواع العنف التي شهدها -ولا زال- التاريخ البشري.
جرائم العنف الأسري تمرّ بصمت!
كغيرها من الآفات الاجتماعية التي رافقت الأزمات التي عصفت بالبلد، تفشّت ظاهرة العنف الأسري في أوساط المجتمع اللبناني بشكل خطير، وسجلت الحوادث المرتبطة بها ارتفاعًا مقلقًا جدًّا خلال العام السابق، إذ بلغ عدد الشكاوى التي وردت الى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي على الخط الساخن المخصص للعنف الأسري 1184 حالة، معظمها من العنف الجسدي، وهو الأشد خطورة.
ومن ناحية ثانية، ووفقًا لدراسة أجرتها جمعية أبعاد عام 2021، شملت 1800 امرأة تقريبًا في لبنان، أفادت أن 12.7% منهنّ تعرّضن لنوع من أنواع العنف، وأن 9.8% منهن تعرضن للعنف المنزلي، بالإضافة الى أن 91 % منهن تعرضن للعنف ولم يبلّغن أحدًا!
وبالحديث عن الأسباب التي أدت الى تفاقم هذا الوضع، لا بد من أن نذكر الأزمات الاقتصادية والصحية والأمنية التي يمر بها لبنان والتي تزيد من مستويات التوتر والضغوطات، ناهيك عن الضغوطات النفسية وحالات الإدمان على المخدرات والكحول. ومن الأسباب التي شجعت جدًا حالات العنف الأسري وجود استغلال غير مبرر للنصوص الدينية بهذا الشأن، فضلًا عن وجود منظومة قانونية غير حمائية، وغياب ثقافة المساءلة والمحاسبة.
هذه الدوافع مجتمعة، لها عواقب وخيمة على المجتمع اللبناني، اجتماعيًا وصحيًا واقتصاديًا وأسريًا، لأن حوادث العنف الأسري تستدعي الرعاية الصحية وتدخّل الطب الشرعي في أحيان كثيرة، فضلًا عن آثارها السلبية على شخصية المعتدى عليه وتحطيم ثقته بنفسه وهروبه من نظرة المجتمع له، ناهيك عن الرواسب التي تترك لدى الأطفال الذين يشاهدون العنف ويتأثرون به نفسيًا وسلوكيًا.
لمكافحة العنف: بالقانون نبدأ
بعد مرور ست سنوات على إقرار القانون 293/2014 لحماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، أقر مجلس النواب في ديسمبر 2021 عددًا من التعديلات على هذا القانون في سبيل تأمين حماية فعالة لضحايا هذه الظاهرة. إلا أن المنظمات والأفراد الذين ناضلوا لإقرار هذه التعديلات، سجلوا عدة ثغرات وتناقضات في المواد، بعضها يبطل مفعول القانون ويستخدم ضد الضحية، أضف الى ذلك عددًا من التعديلات الأساسية المهمة التي لم يؤخذ بها أساسًا.
أمام هذا الواقع، فإن المجتمع اللبناني -وتحديدًا الوزارات والجمعيات والجهات الرسمية المعنية- أمام مسؤولية جديدة لإقرار هذا القانون بصيغته الكاملة والضامنة دون ثغرات واستثناءات. وهذه المسؤولية مسحوبة أيضًا على المحاكم الدينية الشرعية التي لا بد من أن تعيد قراءتها للنصوص الدينية بشكل يحقق عدالة السماء في الأرض، فضلًا عن الدور الأساسي الذي يمكن أن تمارسه الوسائل الإعلامية في تسليط الضوء على خطورة هذه الظاهرة والضغط على المعنيين لإقرار القوانين العادلة لا سيما وأن هذه القضية تكاد تغرق في غياهب الظلمات كغيرها من القضايا الكثيرة الأخرى المتروكة على رفوف النسيان.
إن النضال في سبيل التصدي لأي شكل من أشكال العنف هو معركة لصون الإنسان ووجوده وكرامته، الإنسان الذي خلقه الله حرًا آمنًا، وهي معركة لتحقيق عدالة الخالق بين الخلق، هذه العدالة التي نصت عليها الكتب السماوية، وتبنتها الشرائع والمذاهب الدينية، ولم تكرسها أو تحمِها يومًا كما يجب قوانينا الدستورية.