شُغِف الحلبيون عبر التاريخ بصنع سعادتهم بطقوسهم وأدواتهم الشعبية والمحلية الخاصة، وهذا ما مكنهم ليس فقط من التفوق على صخب الحياة وجمود روتينها، بل أهلهم لدخول عالم الحضارة من أوسع أبوابها بأصالة متجذرة وقفت بجلادة في وجه محاولات هدمها وطمس هويتها الضاربة في عمق الزمان والمكان.
ما هي مراسم السعادة الحلبية؟ وهل اقتصرت تأديتها على الطبقات المقتدرة ماديًا؟ وهل قتلت في نفوس الحلبيين اليوم بفعل الحرب التي تعرضت لها المدينة؟
لا داعي للعودة كثيرًا إلى الوراء، فأيام ما قبل الحرب، والتي تسمى في حلب اليوم (الزمن الجميل) تنبئك بقصة تلك المدينة التي لا تهدأ.
ففي حلب من الحيوية وفرط النشاط وحب العمل ما يكفي ليجعلها تصل لياليها بنهارها سهرًا وسمرًا وعملًا بأجواء تغمرها المحبة والأُلفة بين مختلف العوائل الحلبية.
وفيها من الأمان ما ينمُّ عن القيم الأخلاقية المتوارثة بين أهلها كاحترام الآخرين وصون أموالهم وأعراضهم ودمائهم، وتقدير الجار وحفظ حرمات البيوت وغيرها، وما يجعل شوارعها مستيقظة تضج بالناس وتفاصيل حياتهم المفعمة بالفرح والترف إلى وقت متأخر من الليل.
لم يكن البسطاء والفقراء في حلب أقل شأنًا من غيرهم في ممارسة ضروب السعادة والابتهاج بما هو متاح بين أيديهم، فقبل اكتساح الوجبات الغربية السريعة حياة الناس وإيهام الأفراد والمجتمعات العربية عبر الميديا بأنها معيارُ رغدِ العيش والرفاهية والتحضر والتمدن، وأنك لا تستطيع أن تعبر عن أي نوع من تلك الحياة دون أن تمتلك القدرة الشرائية لتناولها في مطعم فاخر إلى جانب علبة البيبسي في أي وقت تشاء، حوّل الحلبيون رغيف الخبز من قوتٍ خاصٍ بوجبات الأكل اليومية إلى رفيق دربٍ يزين رحلاتهم في السفر والتنزه، يحشون بساطته بما يسمونه في حلب (ميت فرنجي)، وهي دبس البندورة التي تمتاز بنكهة خاصة في حلب بفضل طريقة تموينها الفريدة، والتي تحاكي الأخلاق الحميدة والتماسك الاجتماعي لأهالي تلك المدينة؛ ففي الوقت الذي كان فيه الناس في الدول الأخرى يخزنون أموالهم في البنوك لأنهم غير قادرين على حمايتها من السرقة حتى في مخابئ بيوتهم، كانت أسطح الأبنية الحلبية تتخضب بأحمرِ مونتهم السنوية من (الميت فرنجي) التي تعتبر مكونًا رئيسيًا يدخل في الكثير من أصناف أطعمتهم دون أن تتعرض لأي نوع من الإضرار.
فمن حبات القمح التي تجنيها أيادي السوريين في الجزيرة فيصنعون منها الخبز في حلب، والبندورة الأرجوانية المختمرة التي تشتهر بها منطقة السفيرة في ريف حلب، إلى التوابل وعلى رأسها الفليفلة البابية وزيت الزيتون الإدلبي أو العفريني، يداوي الحلبيون البسطاء اللواعج بالمباهج، ويمزجون أسلوب حياتهم بتراب الأرض وما تدرّه عليهم من الخيرات والمبرات راضين وقانعين ومتفائلين، يعملون بجدٍ وأمانةٍ وإتقانٍ وحرفيةٍ يقلُّ نظيرها، يعينون أنفسهم على متاعب الحياة بروح البهجة، ويصنعون قوالبها بالحب.
ليسوا عالةً على الحضارات، ولا يرتهنون بأسلوب حياتهم لأنماط وأدوات مستوردة لا تناسب هويتهم وثقافتهم، ولا ينسلخون من سنخيتهم كما أراد لهم الغزو الثقافي الممارس ضدهم.
يملأون الحدائق أيام العطل رجالًا ونساء وأطفالًا، يفترشون العشب الأخضر بالبساط المسبوك بالنول كأنه حضن الأجداد يضمهم بالعطف والحنين، يتوزعون أفواجًا يحرسهم إيمانهم عن نظر أحدهم إلى الآخر بعين الحسد إذا ما اختلف عنه بسيارة فارهة أو فاكهة باهظة الثمن.
وقد يمرُّ من أمام عائلةٍ طفلُ إحدى العوائل الأخرى سارحًا شاردًا كالغزال الحر يداعب هالة الأمن والراحة والطمأنينة التي تكلل أزقة مدينته فيقاسمونه طعامهم وشرابهم، ويقاسمهم ابتساماته وبراءة الطفولة في عينيه.
هذه حلب التي حاولت الحرب المفروضة عليها قتل أهازيجها، وأصداء الحياة في حناياها، ومراسم الفرح في محياها، ومعالم الأصالة في مزاياها.
أراد لها الغارقون في أشباه الحضارة وأنصاف الإنسانية والحياة المبتذلة الزائفة كالزبد يذهب جفاءً أن لا تخلع بزة الحزن ولا تنفض عنها غبار الخوف وكل ما ألحقوه بها من أذية ودمار.
ولكنك لو أتيت اليوم إلى حلب، وفي هذه الأيام الباردة حيث تكاد تنعدم أقل وسائل الدفء، لبمجرد أن يخترق صقيع أحد الصباحات صباح شمس دافئة حتى تجد أهل حلب ينفرون إلى الحدائق والشوارع والمنتزهات حاملين الأمل في عيونهم، والرضا والإيمان في قلوبهم.
إنك إن أتيت اليوم إلى حلب ستجد الرغيف حاضرًا كسلاح سيادتهم ومفتاح سعادتهم، لا يبحثون عن القيمة المادية لما تحتويه حقائبهم، بل مؤمنون بما يملكون من قيم أخلاقية ووطنية تغزل نسيج تعاونهم وتضامنهم وبذلهم السخي بكل ما أوتوا من قوة على العمل والتصدي والمواجهة في سبيل ذكريات ماضيهم المجبولة بأرواحهم وحياة حاضرهم المرسومة بعرق جباههم والموسومة بعزّة نفوسهم ومستقبل أفضل يتطلعون إليه بصبر وحكمة وثقة بكرم الله والعمل الطيب.
ذلك لا يعني أن سندويشة (الميت فرنجي) تُمثل كل شيءٍ في فسحات الترفيه عند الحلبي الفقير، أو أنَّ الحلبيين البسطاء كانوا محرومين أيامَ الزمن الجميل من سعة العيش إلا كفافًا، بل كانوا قادرين على ممارسة الكثير من صنوف الترف لكنهم في الوقت نفسه يملكون من جمالِ الروح وحُسن القناعة والتناغم مع الفطرة وحب البساطة ما يكفي ليجعلهم يرتادون الحدائق بشكل أسبوعي على الأقل، يصنعون مما هو متاح بين أيديهم جنةً لقلوبهم الكبيرة، مكونين علاقتهم الخاصة مع الطبيعة الجميلة في أرضهم، يبنونها بلبنات الحب والشوق والصدق والموانة أحيانًا.
هذا النوع من أسلوب العيش الشعبي البسيط، والذي يعتمد بكل قوامه على ما تنتجه الأرض لهذا الشعب من النِعم، وما يقدمه لها من شكر، تجلى في دفاعه عنها وتضحياته في سبيل وحدتها واستقلالها وأمنها، كان خير معينٍ لأهل حلب في تجاوز صعوبات الحرب والنجاة من أغلب مخاطرها ومواجهة الحصار وتردي الوضع الاقتصادي والمعيشي.