شكل تنظيم “داعش”، الذي يعتمد السلفية الجهادية الممزوجة بعقائد مذهب الوهابية منهاجاً له، الخطر الأكبر على الأمن القومي العربي منذ ظهوره حتى هزيمته عسكريًّا في سوريا والعراق. لم يكن لدى هذا التنظيم غير مشروع إقصائي، يريد من خلاله أن يغير معالم المنطقة العربية وتاريخها. ومنذ عام 2013، تحول التنظيم إلى المادة الإعلامية الأولى في العالم. وإن كانت ولادته بدأت شيئًا فشيئًا بعد الاحتلال الأميركي للعراق، لكن المتغيرات التي حصلت عقب ثورات الربيع العربي جعلت منه التهديد الأبرز لأمن الدول العربية.
ولم يكن تمدد “داعش” ممكنًا لولا وجود بيئات حاضنة له، فسقوط مساحات سكانية واسعة وبسرعة قياسية وبلا قتال يذكر، لم يكن ليحصل من دون وجود بيئات مهيأة لدخوله.
أولاً: تهديد أمن الدول العربية
وكاد التنظيم أن يوسع بناء خلافته فعليًّا بين الدول العربية الموجودة في غرب آسيا وشمال افريقيا، فضلًا عن أنه أعطى اللولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها الذريعة للدخول إلى سوريا والعراق تحت مظلة التحالف الدولي، بالإضافة إلى فتح الباب لتركيا على مصراعيه لتشكل تهديدًا بارزًا لأمن واستقرار العراق وسوريا. وقد انعكس انتشار التنظيمات الإرهابية، أكثر ما انعكس، على سوريا، حيث شكلت الأزمة السورية أحد أبرز التهديدات للأمن القومي العربي، فضلًا عن أن شكل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين.
قد شكّل تنظيم “داعش” أحد أهمّ تجليات مشروع الشّرق الأوسط الجديد، الذّي يقوم على تقسيم دول هذه المنطقة، ومنها سوريا والعراق، لكي تكون ضعيفة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها حيال التّحديات والتّهديدات الإقليميّة والدوليّة؛ وخاصة التهديد “الإسرائيلي”، إذ يعتبر أحد أهمّ أركان هذا المشروع الذي ينادي بأمن “إسرائيل” أولًا.
وقد استفادت “إسرائيل” أيّما استفادة منه، فاستغلت إنهاك الجيوش العربية بمحاربة “داعش” والتّنظيمات الإرهابية، وضرب بنية الدّولة السّوريّة، لتثبيت نظرية عدم المساس بالأمن القوميّ “الإسرائيليّ”. وعملت على استغلال هذه الظّروف، مع وجود التّحالف الدّولي، لفتح علاقات جديدة مع دول عربية، تحت حجّة الحرب على الإرهاب.
وقد شكّل “داعش” نموذجًا للتّكفير والقتل والتّنكيل، مع تركيز التّنظيم على الانقسامات العرقيّة والدينية في الدّول العربيّة، مستخدمًا خطاب الكراهية بين أبناء الطوائف والمذاهب الدينية المختلفة، ولم يختلف هذا الدور عن الدور الذي مثله الكيان الصهيوني خلال صراعه مع هذه الدول.
ثانيًا: الدور الأميركي
استغل تنظيم “داعش” التّحريض العربيّ من دول ضدّ أخرى، في ظلّ غياب التّشارك الأمنيّ، بهدف نشر الفوضى وتفتيت الدّول وشرذمتها. وهذه الفوضى الخلاقة التّي أحدثها تنظيم “داعش” وغيره من التنظيمات، كانت كونداليزا رايس قد تحدثت عنها خلال السّعي الأميركيّ مع إدارة بوش الابن لبناء الشّرق الأوسط الجديد . وشكّل تنظيم “داعش” أحد أبرز الأذرع المساعدة في بسط الهيمنة الأميركيّة على المنطقة العربيّة، وإدخال الجيوش إلى سوريا والعراق تحت مسمّى محاربة الإرهاب، وهذا ما استغلّته الإدارة الأميركية لإدخال قواتها إلى سوريا.
وفي العراق شكّل توسّع “داعش” فرصةً كبرى، أمام الإدارة الأميركيّة لتوسيع نفوذها العسكريّ فيه، تحت غطاء التّحالف الدوليّ، ما يحقّق استراتيجيتها في محاصرة إيران والوقوف بوجه توسّع نفوذها فيه، حيث إنّ العراقيين استعانوا بها في حربهم ضد “داعش”، كما استفادت واشنطن من الربط بين الحدود العراقيّة والحدود السّوريّة عبر شرق الفرات وانتشار قواتها في هذه المنطقة الاستراتيجية، التّي تربط بين البلدين، وتمنع إعادة التقاء الجيشين السّوريّ والعراقيّ والقوّات الحليفة لهما، فضلاً عن أنّ عين واشنطن -التي تربطها اتفاقات اقتصادية مع العراق- على آبار النّفط العراقيّة، وبالتالي فإنّ وجود قوّاتها في شمال العراق يجعلها أقرب من هذه الآبار.
أمّا في سوريا، فقد كانت واشنطن تسعى، من خلال انتشار قوّاتها، للسيّطرة على المنطقة المعروفة بدرع الفرات، الواقعة ما بين نهر الفرات إلى الشّرق وتلك الواقعة إلى الغرب منه، والتّي كانت تسيطر عليها “داعش”، لما تحتويه من ثروات نفطيّة يمكن لواشنطن الحصول عليها، والاستفادة من موقعها خلال أية مفاوضات تحفظ لواشنطن مكاسب اقتصادية في سوريا. فضلًا عن أنّ هذه المنطقة هي منطقة واصلة بين سوريا والعراق، تمنع فتح الحدود السّوريّة العراقية، وبالتّالي تمنع إقامة طريق يمتد من إيران مرورًا بالعراق وصولًا إلى سوريا، فضلًا عن تقطيع أوصال الدّولة السّوريّة وتدمير بنيتها السّياسية والاقتصاديّة والعسّكريّة، وشرذمتها على أسس طائفيّة وعرقية.
وعلى الرغم من الانتصار على هذا التنظيم والقضاء عليه عسكريًّا، عبر قيام تحالفات ضدّه، من خلال التحالف الروسيّ الإيرانيّ السوريّ، الذّي لعب الدّور الأبرز والأصدق في القضاء على الإرهاب المتمثل بتنظيم “داعش” و”القاعدة”، فإن التحالف الدوليّ بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة هو المستفيد الأكبر من وجود هذ التنظيم ومن عودته إلى سوريا والعراق. لكن المواجهة لن تنتهي كليًّا، لأن تنظيم “داعش” وإن انتهى عسكريًّا بالشكل الذي كان عليه من خلال تحرير المناطق التي يسيطر عليها، إلا أنّ فكره لا يزال قائمًا وقد تحول إلى تنظيمٍ سري، يحرّك الخلايا النّائمة، كما يفعل تنظيم “القاعدة”، وينتظر اللحظة المناسبة للقيام بعملياتٍ إرهابية، فضلًا عن ظاهرة “الإرهابيّين المنفردين” أو ما يعرف “بالذئاب المنفردة” كونها تقوم بتفعيل عملها في الظلّ، ومن يقوم بتحريك هؤلاء لا شك أنه من يستفيد من إبقاء الفوضى في منطقة الشرق الأوسط، ولا شك أن الولايات المتحدة الأميركية هي التي تلعب هذا الدور.
ثالثًا: عودة لمصلحة واشنطن
لقد بدا في الآونة الأخيرة، كيف عاد داعش ليعمل في سوريا والعراق، لا سيما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وفي ظل الحديث عن انسحاب من العراق ومن ثم سوريا، تمهيدًا لتخفيض عدد القوات والتفرغ للمواجهة مع الصين. لكن الإدارة الأميركية لن تترك المنطقة كليًّا، وذلك ينبع من أهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لها، وهذا ما يعني أنها ستبحث عن فوضى جديدة لدول هذه المنطقة، فداعش لم تنته كأداة يستخدمها الأميركيون، بل لا تزال ورقة أميركية أساسية في المنطقة، وبمجرد أن بدأ الضغط من أجل حصول انسحاب أميركي من العراق، تم تحريكها وقامت بقتل عناصر من الجيش العراقي، على إثر هجوم نفّذه هذا التنظيم الإرهابي على مقرّ سرية للجيش بين قريتي أم الكرامي والهيتاوين غربي العظيم في محافظة ديالي، كما يشن هجمات بشكل دائم شمال العراق، وكذلك وبمجرد تحرك مجموعات في سوريا ضد الاحتلال الأميركي، فتحت المنطقة مجددًا للتنظيم من خلال العمل في الحسكة السورية، من خلال هجوم على سجن غويران في المدينة، ومن ثم سيتم فتح ثغرات أخرى لها على ما يبدو، بين سوريا والعراق. ولا شك أن عمليات الفرار من السجون وأعمال الشغب داخلها شكلت عنصرًا أساسيًّا في معاودة داعش الظهور في العراق، وتشكيلها اليوم تهديدًا خطيرًا في سوريا. وتضم السجون الواقعة في المناطق الواسعة التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سوريا نحو 12 ألف إرهابي من نحو 50 جنسية، وفق السلطات الكردية.
وتقع محافظة الحسكة في الشمال الشرقي من سوريا، مركزها مدينة الحسكة، ويقع ضمنها مخيما الشدادي والهول والذي تسكن فيه عوائل متشددة، يمكن أن يدخل من خلالها الإرهابيون. إلا أن ما يثير التساؤلات هو أنه يوجد في محافظة الحسكة وجوارها أكثر من 5 قواعد عسكرية أميركية وما يقارب 1000 جندي أميركي، وهي قاعدة رميلان، وتل بيدر، والمالكية، والمدينة الرياضية، والشدادي، فهل عجز هؤلاء عن ايقاف هجوم داعش، أو أنهم هم من يقومون بفتح الباب لها مباشرة ودعمها وإعادتها بشكل فاعل إلى المنطقة؟ وكما هو واضح تتبع الولايات المتحدة نهجًا يعمد إلى دعم وجودها في سوريا وتكثيفه في منطقة الشمال الشرقي، حيث تعد محافظة الحسكة مركز الانتشار العسكري الأميركي الأبرز في سوريا، وكذلك تعمد إلى إبقاء جنودها في العراق تحت ذريعة المستشارين وتدريب القوات الأميركية، ومع هذه الضربات الدائمة لداعش ستكون هناك ذريعة مستمرة لها، وهو ما أعلنه التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن من أن تنظيم “داعش” “لا يزال يشكل خطرًا وجوديًّا ولا يمكن السماح له بأن يجدد نفسه”.
صدر للدكتور علي مطر مؤخراً كتاب “تأثير المنظمات المتطرفة على الأمن القومي العربي – داعش أنموذجاً”