توالت في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الصراحة المفرطة لعلاقة العديد من الأنظمة العربية مع الكيان “الإسرائيلي”، فنجح عهد ترامب في إثبات صدقية نظرية من كان يتّهم بعض الأنظمة العربية بالتعامل والتطبيع مع العدو الصهيوني. فبعد نحو سبعين عامًا من احتلال فلسطين وتأسيس الكيان “الإسرائيلي” بات نحو ثلث العالم العربي يعترف بـ”دولة إسرائيل” ويتعامل معها، فطبّعت الإمارات العربية المتحدة والبحرين في 15 سبتمبر 2020 وتبعتهما السودان والمغرب بعد بضعة أسابيع، فأصبحت هذه الدول بالإضافة إلى الأردن ومصر ستّ دول عربية تعترف وتقيم علاقات مع الكيان “الإسرائيلي” مع استعدادٍ واضحٍ لبعض الدول الأخرى لتطبيع العلاقات وتنتظر ساعة الصفر للإعلان عنه.
ارتبطت القضية الفلسطينية أو الصراع العربي – “الإسرائيلي” بالعروبة، فهنا كان تعريف العروبة عند عوامّ العرب في السبعين سنة الماضية: العروبة هي أن تكون ضدّ “إسرائيل”، هي السبب الرئيس لعدم الاستقرار في المنطقة ولغياب الوحدة العربية، ثقافة عروبية قومية ومجلّدات وأدباء ومؤلّفات وحركات إسلاميّة بعثية تحرريّة يسارية شيوعية اشتراكية قومية عروبية فلسطينية لا تعدّ ولا تحصى. أمسَت فلسطين قبلةَ العرب التي قلوبهم إليها ترحلُ كل يوم، فلا صلاة جمعة تُقام من دون الدعوة للأشقّاء في فلسطين المحتلة، ولا يؤسس حزبٌ في بلد عربيّ إلا وكانت فلسطين مذكورةً في وثيقتِه التأسيسية، ولم يتعرّف العالمُ على زعيم إقليميّ أو عالميّ جديد إلا وكان له موقفٌ من القضية الفلسطينية.
التطبيع عند العرب
اعترفت مصرُ بدولة “إسرائيلية”، وطبّعت منذ أكثر من نحو أربعين عامًا. طبّع الأردن كذلك قبل نحو ثلاثين عامًا، ماذا تغيّر عندهم؟ ه أصبحت شعوبهم تحبّ “الإسرائيليين”؟ لا، وحتى لو صار هناك من لديه براغماتية مفرطة ويشكّل على أكثر التوقعات نحو 10% من السكان، إذًا لديك 400 سنة أخرى حتى تقنع السكان كلهم بذلك. لن يقتنعوا.
من التعابير التي يستخدمها بعض متقني الاستفزاز قولهم: “انظر أين أصبحت الإمارات ونحن إلى أين رجعنا”. يقصدون بذلك تفوّق الإمارات وتراجع لبنان، وكأنّ الإمارات كانت قبل التطبيع صحراء وبعد التطبيع الذي حصل منذ سنة وثلاثة أشهر أصبحت وجهةً عالمية. يُركّزون على الإمارات ولا يرون الأردن ومصر والسودان.
قد يخيّل للبعض بسبب فيديوهات وتمثيليات وإعلانات التوافق الإماراتي – “الإسرائيلي” الذي يصوّر فتاةً إماراتية في الجامعة مع بعض “الإسرائيليات” أو شابّيْن إماراتيّ و”إسرائيليّ” يخيّمان في الصحراء أنّ العلاقات بين الشعبين ستكونُ ممتازةً وكلّ ما كُسر يمكن أن يُصلح، وكأنّ الحياة سهلة لهذا الحدّ؛ فهؤلاء الأشخاص وإن مثّلوا دور المتسامح العمرَ كلّه سيبقى -في نهاية المطاف- كلّ منهم يعدّ الآخر عدوًّا أو على الأقلّ عدوًّا محتملًا له يجب الحذر منه، ولا يستطيع أحدهم الوثوق بالآخر بسهولة. هذا هو الواقع يا طويلي العمر.
التطبيع في لبنان
لبنان ليس كسائر الدول العربية فيما خصّ الصراع العربي – “الإسرائيلي”، فلبنان لم يكن يومًا مجرّد منحاز لصفّ الفلسطينيين أو داعٍ لإنهاء الاحتلال فحسب، بل لبنان هو في صلبِ هذا الصراع، قدّم دماءً وسنوات لا تمحوها مصالحُ آنيّة أو لحظةُ ضعف، فكان ملاذًا لحركات التحرير الفلسطينية، واحتضن القضية فكرًا وعقيدةً وقلمًا وبندقيّة، مزج دماءه بدم فلسطين، وقدّم مثالًا للعالم كيف لا تُهان النفوسُ الكرام ولا ترضى بمفاوِضٍ غير فوهةِ البندقية.
ولكن كي نبقى واقعيين، ليس كل اللبنانيين ينظرون للصراع الفلسطيني بنفس العين، فهناك عدد ليس قليلًا من اللبنانيين يعتبرون القضية الفلسطينية تخصّ الفلسطينيين حصرًا، ويرون أنّ علينا دعمها من باب نصرة المظلوم بالكلام والمواقف فحسب. وهناك أيضًا من ينظر للقضية على أنّها مسألة خلافية بين المسلمين واليهود. وهناك فئة ولو قليلة تدعم الكيان “الإسرائيلي” أو ترى مصلحتها معه. هذا كان نتيجةً بديهيةً لربط الصراع بجنسية أو ديانةٍ وإسقاطها على مجتمع طائفيّ عنصري بتركيبته كلبنان.
مع كل ما ورد، يبقى موقفُ لبنان الرسمي هو العداء المطلق للكيان الصهيوني “الإسرائيلي” وعدم الاعتراف به كدولة. إلّا أنه درج في السنوات الأخيرة خطاب وتعامل لم يعهدهما لبنان منذ التحرير عام 2000 وحتى اليوم. قبل عشر سنوات على سبيل المثال لم يكن معهودًا سؤال السياسيين في البرامج التلفزيونية إن كانوا مع أم ضدّ التطبيع، لم يكن سؤالًا له موقع في التلفاز اللبناني، اليوم صار هذا السؤال لا يغيب تقريبًا عن أي برنامج سياسي أو حتى اجتماعي، فصرنا نسمع برؤساء كتل نيابية تقول إنها “مع حقّ “الإسرائيليين” بالدفاع عن أنفسهم” -هذا كأن يقول فلانٌ إنّه يَحقُّ للسارق أن يقتل مالك البيت إن قاوَمه- وصار يتفنّن العديد من الأشخاص بطرح نظرياتهم لمستقبل العلاقات اللبنانية- “الإسرائيلية” من دون أيّ احترامٍ لعائلات عشرات الآلاف من الشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن لبنان ضدّ العدو الصهيوني الذين يشاهدونهم يتكلّمون بكل وقاحة، حتى قام إعلامي لبناني أخيرًا بالإعلان عن حقّ الناس بإبداء آرائهم إن كانوا يؤيدون التطبيع بحجة أنّه ليس “تابو”.
جرى في السنوات الأخيرة في لبنان تطبيع فكرة التطبيع؛ فالكلام اليوم عن التطبيع صار سؤالًا مشروعًا جدليًا على الجميع إبداءُ الرأي فيه وكأنّه استفتاء حول من صاحب أطيب سندويش شاورما مطعم جوزيف أَم مطعم جبّور (جوزيف طبعًا).
من منطلق آخر، وفي لبنان أيضًا، تقوم الولايات المتحدة الأميركية والكيان “الإسرائيلي” بترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلّة تحضيرًا لبيعها للعدو، وستوقع على المرسوم الدولة اللبنانية معترفةً بذلك بدولةٍ اسمها “إسرائيل” بحدودٍ بحرية واضحة. ويتغندرُ منذ بضعةِ أسابيع عسكريٌّ سابق في جيش العدو في شوارع بيروت ويقابل الرؤساء الثلاثة وقائد الجيش وكأنّ حربًا لم تكُن.
أيضًا، وفي لبنان اليوم، ونتيجة التحضير الإعلامي الذي جعل الكلام عن السلام والتطبيع أمرًا عاديًا، صار العديد من المواطنين يتكلمون في هذا الأمر على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها معلنين أننا لسنا مضطرين للموت والقتل مدى الحياة، بل نريد سلامًا. هذا كلام حقّ يراد به باطل، فمَن هو الذي يريد الموت من أجل لا شيء ويريد الحرب بدل السلام؟ ولكنّ السلام يُفرض عندما تكونُ قويًّا وليس يأتي وأنت في وهنٍ وضعفٍ ولا تجدُ دولتك اللحمة لإطعام عناصر جيشها فيه، فالسلام وقتها يكون استسلامًا وخنوعًا ليس أكثر. وجاء هذا الخطاب بعد موجةٍ إعلامية سابقة من قِبل المحوريْن صوّرت وكأنّ المشكلة مع الكيان الصهيوني هو صراعٌ بين حزب الله والصهاينة فقط، فتمّ تغييب ذكر عشرات الآلاف من قتلى الاجتياح “الإسرائيلي” لبيروت وغيرها ومجازر العدو من قبل تأسيس حزب الله، وأوهمَ الناس وكأنّ الصهاينة لم يفعلوا في لبنان سوى احتلال بعض قرى الجنوب وشبعا وحرب تموز عام 2006، فكانت هذه الدعاية وقودَ تبرير الخطاب الاستسلاميّ لاستثماره في السياسة؛ فإن أردتَ أن تكون ضدّ حزب الله بتدخّلاته في سوريا واليمن والعراق والبحرين إذًا عليك أن تكون ضدّ تدخّله على الحدود اللبنانية كذلك لأنّ مشروعه غير لبناني -لا يُذكر هذا الخطاب كثيرًا في الإعلام ولكنّه حديث الصالونات المقفلة- فهذا التفكير البايناريّ لم يزدِ الطين سوى بلة.
يبقى الرهان دومًا على انتصار الحقّ على الباطل مهما طال زمان الظلم، فستأتي أجيالٌ بعدنا أشدّ تعلقًا بالقضية من آبائهم وأجدادهم، ولا يسمحون للمشاكل الثانوية مع أيّ مكوّن من جيرانهم وأشقّائهم أصحاب الأرض في بلادهم أو البلاد العربية أو الإقليمية أن يطغى على الصراع الأصليّ مع شرّ دوابّ الأرض الذين استوطنوا أرضَهم ليضمنوا خرابَ كل المحيط.
فلسطين أرض الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين وحتى اليهود منهم. ليست قضيةً دينية وهي كذلك، ولا عرقية وهي كذلك، ولا تحررية وهي كذلك، هي أمّ القضايا وأنبلُها، هي الحدّ بين الحق والباطل وبين الخير والشرّ، هي شرفُ المنطقة المغصوب، هي نكبتُنا التاريخية.
التطبيع، نتائج ومخاطر
تطبيع العلاقات مصطلح سياسي يشير إلى جعل العلاقات طبيعية بعد مدة من القطيعة لأي سبب كان، حيث تعود العلاقة الى طبيعتها وكأن لم تكن هناك خلافات سابقة. لكن اليوم يتردد هذا المصطلح في سياق العلاقة بين متناقضين، كالاحتلال مثلًا والرافضين لوجوده، وهو يعني جعل العلاقة بينهما طبيعية.
إن التطبيع كإجراء يستلزم وجود تكافؤ بين الطرفين حتى يأخذ دلالته الصحيحة، إذ إنه فعل ثنائي الاتجاه يقوم على التكافؤ والتبادلية، بينما التطبيع الحالي يسدي الخدمات في اتجاه واحد فقط، وهو اتجاه الاحتلال “الإسرائيلي”. بناءً عليه، كيف يصح القول إن دولة عربية ما اليوم توقع اتفاقًا تطبيعيًّا مع الجهة التي عملت ولا تزال تعمل لمصلحتها؟ فالدور الذي لعبته بعض الدول العربية ولا تزال في غير مكان خدمة لـ”إسرائيل” يسلبها صفة التكافؤ اللازمة لإبرام اتفاق تطبيعي معها. فهل يمكن للعلاقة بين العبد وسيده أن تصبح في ليلة وضحاها علاقة بين سيد وسيد؟ لكل ذلك فإن ما جرى بين بعض الدول العربية والاحتلال “الإسرائيلي” لا يعتبر تطبيعًا وفقًا للمفهوم الذي أوضحناه، وإنما يعد عملية تقدم في الخدمات التي تقدمها الأولى للثانية.
أما الاحتلال “الإسرائيلي” فلا يتعاطى مع التطبيع بوصفه هدفًا نهائيًّا، بل كمرحلة من مراحل تعزيز موقعه للمواجهة اللاحقة، وليواصل بعدها مساعيه الهادفة لفرض هيمنته المطلقة علينا، وفي هذه الحالة فإن التطبيع لا يعبر البتة عن واقع الحال، بل يخفي خلفه الكثير من الحقائق المضمورة.
تجارب التطبيع وانعكاساتها على الدول التي طبعت
تجربة مصر مع التطبيع
لم تحقق مصر من التطبيع مع العدو “الإسرائيلي” إلا الخيبة، حيث أصبحت في قراراتها السياسية والاقتصادية مرتهنة للهيمنة الأميركية “الإسرائيلية”. ومن خلال التطرق إلى مختلف القطاعات الاقتصادية الرئيسية والإنتاجية المصرية ووضع البنية الاقتصادية والمالية قبل السلام وبعده نرى مدى التأثير السلبي على الاقتصاد المصري. تبدو التبعية الاقتصادية والسياسية جليةً على العلاقات الاقتصادية المصرية “الإسرائيلية”، خاصة إذا ما عرضنا ما قام به البنك الدولي بالتعاون مع وكالة التنمية الأميركية من خلال استراتيجية التنمية في قطاعَي الزراعة والصناعة بغية جعل هيكل الاقتصاد المصري متسقًا مع متطلبات السلام الأميركي “الإسرائيلي”. وحيث يمثل الناتج الزراعي 18% من الناتج القومي حاليًا، فقد كان في الستينيات والسبعينيات أكثر من 55%، ما جعل مصر تتسم بوصفها بلدًا زراعيًا. وقد أعقب توقيع معاهدة السلام المصرية “الإسرائيلية” انسحاب جزئي من الأراضي المصرية، لكن الكيان الصهيوني خلال فترة الانسحاب الأول صعّد مطالبه وهدّد بعدم الانسحاب من منطقة النفط (شعاب علي) ما لم تُنفذ مطالبه، وبالفعل تم مراده، فبات الكيان يمتلك حصة منتظمة من النفط المصري وصلت إلى أكثر من مليوني طن سنويًا يحصل عليها بسعر يقل عن 5 دولارات في البرميل الواحد عن السعر السائد في السوق بالنسبة إلى النفط المصري. وفي الوقت الذي بقي فيه الكيان لعقود خلت يأخذ النفط المصري بسعر زهيد، ويستورد الغاز كذلك، ويكبد مصر خسائر جمة في ذلك، فقد شرعت حكومة الاحتلال بتصدير الغاز من احتياطاتها البحرية إلى مصر. كما أبرمت شركة «نوبل»، ومقرّها الولايات المتحدة، وشركة «ديليك» “الإسرائيلية” صفقة بقيمة 15 مليار دولار مع شركة «دولفينوز» المصرية لمدة عشر سنوات لتزويدها بـ 64 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. بعد الاعتماد على الاستثمارات الخارجية والجهات الدولية بشكل أساسي في مصر، بدت تغيّرات في البنية الاقتصادية المصرية، حيث تم الاعتماد على الخارج لتغطية الفجوة الغذائية، القروض الميسرة والمنح، وبات من سمات الاقتصاد المصري الهيكل الهش والمكشوف للموارد. وقد ارتفعت معدلات الديون المصرية بشكل ملحوظ وخيالي. وقد قدمت الحكومة الأميركية قروضًا ميسرة ومساعدات مشروطة لقطاعات النفط والقناة والسياحة والعاملين في الخارج، وهو ما مثّل أداة للتدخل المباشر في إدارة الاقتصاد المصري على المستوى الكلي والقطاعي والجزئي، وأداة لتحديد اتجاهات التنمية وفق المخططات الاستراتيجية الأميركية و”الإسرائيلية”. بناءً عليه بدأت أرقام اقتصاد مصر تتمظهر بشكل سلبي حيث تشير البيانات والأرقام الرسمية المتاحة، ووفقًا للبنك المركزي المصري، إلى ارتفاع جنوني للدين العام وصل إلى 134.80 مليار دولار حتى آذار من العام 2021 . كما إنّ الديون الخارجية قفزت 480 % في غضون 39 عامًا بحيث بلغت 40% من الناتج المحلي الإجمالي، أما الدين العام الإجمالي فقد تجاوز 90 بالمئة.
خسارة معركة الغاز
إن مصر خسرت مليارات الدولارات من خلال تصدير الغاز إلى “إسرائيل” بثمن بخس في عهد مبارك، قبل أن تتحول إلى استيراده منها عبر صفقة بنحو 15 مليار دولار لمدة 15 عامًا. ولولا التطبيع ما كانت تحلم “إسرائيل” بتصدير غازها، ولظل حبيس البحر. وقد تم تبديد حلم مصر بأن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة بعد الاتفاق بين “إسرائيل” وقبرص واليونان على إنشاء خط “إيست ميد” الذي تدعمه أميركا لتخفيف اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، ليقتصر دور مصر على استقبال الغاز “الإسرائيلي” وتسييله في محطاتها.
تدهور القطاع الزراعي
على المستوى الزراعي المصري حدّث ولا حرج، حيث إن التطبيع مع “إسرائيل” أدى إلى أضرار كبيرة في القطاع الزراعي بعد أن كان محرك الاقتصاد قبل 4 عقود. ثم إن كثيرا من أمراض الزراعة المصرية جاء عبر “إسرائيل”، كسوسة النخيل، وحشرة فرو النحل التي دمرت المناحل المصرية، والمبيدات المسرطنة التي دخلت مصر في الثمانينيات والتسعينيات، ويؤكد الخبراء أنها دخلت عبر “إسرائيل” أيضًا.
كما إن “إسرائيل” استفادت من الخبرات المصرية الزراعية العريقة، إذ حصلت على أصناف القطن طويل التيلة وفائق الطول، وأجرت عليه تحسينات لتصل إنتاجية الفدان لديها إلى أكثر من 15 قنطارًا، في حين تخلفت إنتاجية الفدان في مصر إلى أقل من 6 قناطير. وفيما يتعلق بقطاع الثروة الحيوانية، فإن “إسرائيل” حصلت على أصناف متميزة من حيث إدرار اللبن من الجاموس المصري بسبب علاقاتها المتميزة مع وزير الزراعة الأسبق يوسف والي، وقامت بتحسين هذه السلالة إلى معدلات فاقت الأصناف الموجودة في مصر.
تجربة خروج إيران من التطبيع
كانت حكومة الشاه بهلوي قد موّلت نفسها ورهنت الاقتصاد الإيراني لبيع النفط الخام. في عام 1976، شكّل النفط الخام ما يقرب من 93 في المئة من صادرات إيران، لكن انخفضت هذه الحصة إلى حوالى 63% في عام 2016، حيث اعتمدت إيران على قطاعات اقتصادية حيوية، دون أن يكون نظامها الاقتصادي قائمًا على النفط فقط . إن تجربة الجمهورية الإسلامية مع الحصار والعقوبات، أفرزت قدرة عالية على مواجهتها وإسقاطها بتفعيل بدائل فاعلة قادرة على اختراقها أو بالحد الأدنى التغلب على تداعياتها في مجالات كثيرة. ولم تكن العقوبات الاقتصادية القاسية عائقًا حتى أمام تصدير النفط، حيث إن الأهمية الجغرافية لإيران أفشلت العقوبات على بيع النفط، كما إن نجاح بعض الدول كروسيا والصين في اختراق العقوبات شجّع دولًا أخرى كالهند واليابان مثلًا على الاستفادة من مخزون النفط الإيراني ومشتقاته. وبينما كان 46% من الإيرانيين من الفقراء في العصر البهلوي، وفقًا لوثائق البنك الدولي في عام 1977 (حوالى 60% من القرويين و40% من سكان الحضر يعيشون تحت خط الفقر)، تظهر وثائق البنك الدولي (1986- 2014) انخفاضًا كبيرًا في عدد الفقراء في إيران. وقد عملت الجمهورية الإسلامية بعد انتصار الثورة على توفير الكهرباء بنسبة 100%، وذكرت ذلك دراسة صادرة عن مركز الاتحاد للأبحاث، أنه يوجد اليوم 1085 مدينة و23206 قرى يبلغ عدد سكانها ما يقرب من 20 مليون أسرة متصلة بشبكة إمدادات الغاز الضخمة.
مخاطر التطبيع الاستراتيجية
يبقى أن نشير الى الخطر الاستراتيجي والذي تسعى “إسرائيل” من خلال التطبيع الى تحقيقه وهو “إسرائيل” الكبرى. هي لم تستطع أن تحقق ذلك بقوة السلاح فعدلت خططها لتقوم بتحقيق هذا الحلم من خلال ربط اقتصادات كل الدول المحيطة لتجعلها في خدمة الاقتصاد “الإسرائيلي”.
يضاف الى هذا الحلم ملف أساسي تسعى “إسرائيل” الى طرحه وبقوة وهو ملف التعويضات الخاصة باليهود الذي تركوا الدول العربية والأسلامية؛ فبينما تطالب السلطة الفلسطينية بأكثر من 100 مليار دولار تعويضات من “إسرائيل” عن ممتلكات الفلسطينيين الذين هربوا أو أجبروا على المغادرة خلال إقامة “إسرائيل” الحالية، وتقدمت السلطة بوثائق بهذا الشأن إلى الأمم المتحدة منذ أكثر من عقد، تقوم “إسرائيل” بتجهيز ملف ضخم من الدعاوى على الدول التي خرج منها اليهود خلال الفترة الممتدة من عام 1948 ولغاية اليوم، والتي تقدر قيمتها وفقًا لإحصاءاتها بأكثر من 250 مليار. وفي الاحتفال الأول بهذه المناسبة قال رئيس الحكومة “الإسرائيلية” -وقتها- بنيامين نتنياهو: “إن الدول العربية التي لم تقبل أبدًا قرار الأمم المتحدة بالتقسيم عام 1947 وإقامة دولة “إسرائيل” دفعت اليهود المقيمين فيها للمغادرة تاركين ممتلكاتهم، وسنعمل دائمًا على عدم نسيان مطالبهم”.
وفي مارس/آذار عام 2014 اعترفت كندا رسميًّا بوضع اللاجئين لليهود المهاجرين الذين هربوا أو “أجبروا” على مغادرة الدول العربية لدى إعلان قيام دولة “إسرائيل”. ويرى بعض المحللين أن “إسرائيل” تلوح بهذه القضية لتكون لديها ورقة تساوم بها في مفاوضاتها ضد طلبات التعويض الفلسطينية المتعلقة بالممتلكات التي أجبروا على تركها في “إسرائيل” الحالية.
إن الكيان الصهيوني، الدخيل على المنطقة العربية، الغريب عنها، والمغتصب للأرض والحقوق والثروات، يريد من التطبيع مصادرة التاريخ والجغرافيا والعقل والعاطفة والإرادة العربية، ويريد أن يفرض علينا أن نقبل باغتصابه وهيمنته على ثرواتنا، لذلك فإن مقاومة التطبيع وتشديد المقاطعة هما السلاحان اللذان تبقّيا لدى هذه الأمة.