تعتبر الدّراما المرئية إحدى القوى الثَقافية المؤثرة في العالم، حيث لديها القدرة على تشكيل معارف واتجاهات المُشاهد. وتأتي الدراما المرئية في مقدمة الإنتاجات الأكثر جماهيرية بين المشاهدين خاصّةً مع توفّر المنصّات التّي لم تضع قيودًا أمام إنتاجاتها الدّرامية التي استطاعت مواضيعها أن تلامس مشاعر وأحاسيس الشّعوب عامة والشعب العربي بشكل خاص.
انطلاقًا من أهمية الدراما ودورها الفعّال في تشكيل الاتجاهات، تعمل معظم شركات الإنتاج على تمرير بعض المفاهيم والمعتقدات المغايرة لطبيعة مجتمعنا العربي الذي يكنّ العداء للصّهيونيّة، فمؤخرًا بدأت بعض الأعمال العربية تكرّس فكرة التّطبيع من خلال الترويج لمبدأ التّعايش مع العدو “الإسرائيلي” من خلال الدّراما العربية.
عرضت القنوات العربية في عام 2015 المسلسل المصري “حارة اليهود” تأليف مدحت العدل، إخراج جمال العدل. يدور المسلسل حول قصّة حب بين فتاة يهودية وضابط مسلم في الجيش المصري. يسلّط العمل الضّوء على التعايش بين المسلمين واليهود في مصر، وكيف استطاعت الصّهيونية تخريب هذه العلاقات. وأبرز ما دعا إليه هذا المسلسل هو التّمييز بين الصّهيونية واليهوديّة.
أما في الدراما السورية فقد استحدث مسلسل باب الحارة في جزئه السّابع حارة اليهود، وقام العمل أيضًا على التمييز بين اليهوديّة والصّهيونيّة، وضرورة تقبل اليهوديّة كديانة وصولًا لإمكانية الزّواج منها حيث تزوج معتز (وائل شرف) حبيبته اليهوديّة (كندا حنا).
مرَّ العملان “حارة اليهود”، و”باب الحارة الجزء السّابع” دون إحداث ضجّة كبيرة نظرًا لكونهما يتناولان البعد الإنسانيّ بين العرب واليهود ويفصلان بين اليهوديّة كدين والصّهيونيّة كعدو مغتصب، وهذا ما يفهمه الشارع العربي ويتقبله.
على المقلب الآخر عرضت قناة MBC السعودية ضمن إنتاجاتها الدّرامية الرمضانيّة لعام 2020 مسلسلين خليجيين هما مسلسل “أم هارون” الكويتي ومسلسل “مخرج 7” السّعودي، ويروج العملان علانيةً لفكرة التّطبيع مع العدو “الإسرائيلي”، فقد قام العملان بتلميع صورة اليهوديّة وإبراز اليهود كشعب مستضعف مظلوم داخل البلاد العربية، مما أثار حفيظة الشّارع العربي وأدى إلى ردود أفعال شديدة خاصّة بعد عرض حوار الممثلين السّعوديين ناصر القصبي وراشد الشمراني الذي يوجّه حديثه إلى القصبي قائلًا: “”إسرائيل” بشر مثلك.. “إسرائيل” موجودة سواء أعجبكم ذلك أم لم يعجبكم”، يتبعه الشمراني في حديثه في ذات المشهد: “ما ضيّع العرب طوال هذه السنين إلا القضيّة الفلسطينيّة، والنتيجة كلام وجعجعة بلا نتيجة”. أما في مسلسل “أم هارون” فقد تمّ بثّ رسائل سياسية ومغالطات تاريخية، كالانتداب البريطاني على “إسرائيل” وليس على فلسطين، وتسويقهم للتّعايش مع اليهود. وعلى الرغم من الاستنكار الكبير لعرض العملين والمطالبة بإيقاف عرضهما إلا أن القنوات العربية استمرت بعرض “أم هارون” و”مخرج 7″. ولعلّ إنتاج مثل هذه الأعمال الخليجية يندرج ضمن سياسة التقرب السّعودي من العدوّ “الإسرائيلي” ونيل الرضا عبر تقديم أوجه جديدة للتّطبيع مع الصّهيونيّة.
اليوم بات المشاهد العربي محاصرًا تحيطه رسائل التّطبيع من الجهات كافة؛ فبين القنوات العربية والمنصّات الأجنبية التي يقصدها معظم الشباب العربي بهدف الترفيه الدرامي، يجب أن يكون المشاهد العربي متنبهًا لحقل الألغام التطبيعيّة الذي يسير فيه.
تعد منصة نتفلكس من أهم المنصّات الدّرامية في العالم، وتنال شهرة واسعة في الساحة العربية. وكل مَنْ يُشاهد هذه المنصّة يؤكد مدى اهتمامها بالمحتوى “الإسرائيلي” والترويج للفكر الصهيونيّ عبر نشر مجموعة كبيرة من الإنتاجات الدرامية التي تدعم انتهاكات العدوّ “الإسرائيلي”.
تلعب إنتاجات نتفلكس المتصهينة على وتيرة المشاعر مما يجبرك على التّعاطف مع عائلة صهيونية أو بطل إسرائيلي لتشعر في نهاية المطاف بمظلومية الشّعب “الإسرائيلي”، مما يؤثّر في معتقداتك حول أحقية هذا العدو بالعيش على أرض قام باغتصابها وسلبها من الشعب الفلسطينيّ؛ فعلى سبيل المثال في فيلم “The red sea diving” الذي أنتجته نتفلكس عام 2019 من تأليف وإخراج “جدعون راف”، يصوّر العمل مأساة اللاجئين الأثيوبيين اليهود مما يدفع الموساد “الإسرائيلي” لإرسال فريق خاص يقوم بإجلاء هؤلاء اللاجئين المعذّبين إلى أرض آمنة وهي أرض “إسرائيل” (فلسطين المحتلة). تتعاطف بشدّة مع اللّاجئين اليهود وحقهم بالعيش عيشة كريمة وتتأثر بتضحيات فريق الموساد، لتقتنع في النهاية بأن أرض فلسطين هي الملاذ لهؤلاء الصّهاينة المعذّبين. وما هذا الفيلم إلّا إنتاجٌ بسيط من سلسلة إنتاجات سينمائية ودرامية داعمة للانتهاكات والمجازر الصّهيونيّة بحقّ الشّعب الفلسطينيّ.
أمّا مسلسل “إيلي كوهين” إنتاج نتفلكس أيضًا فيروي قصّة العميل الإسرائيلي ” إيلي كوهين” الذّي صار جاسوسًا سرّيًّا داخل سوريا. وهنا يعرض العمل نموذج البطل الإسرائيلي الإنساني المضحّي المناضل من أجل القضيّة “الإسرائيلية” ومنع العرب من إسقاط الحلم الصّهيونيّ باحتلال الأراضي الفلسطينيّة.
تطول قائمة الأعمال التّي أنتجتها منصّة نتفلكس الدّاعمة للصّهيونيّة مرّة بالتّعاطف ومرّة بإظهارها كقوّة خارقة لا يمكن مواجهتها، والهدف من كل هذه الإنتاجات هو كسب التأييد للاحتلال “الإسرائيلي” وكسب التّعاطف العالمي والتأييد لما يقومون به من مجازر وانتهاكات بحق الشعب العربي عامّة والفلسطينيّ خاصّة.
في ظل هذا التّطبيع الدّرامي ما زالت جامعة الدول العربية تتقن دور الأعمى بجدارة، خاصّة بعد تصريحات الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى التّي قال فيها: “إن أمين جامعة الدول العربية الحالي لا يستطيع أن يقول لأيّ دولة أن تطبّع أو لا تطبّع مع “إسرائيل”، ولا يستطيع أن يقول لأيّ دولة أن تحارب “إسرائيل”” . فإذا كان أقصى ما تقوم به الجامعة العربية هو بيانات الإدانة تجاه جرائم العدوّ “الإسرائيليّ” فهل فمن المتوقّع أن تحارب التّطبيع الإعلامي أو الدرامي؟.
من جهة أخرى نعلم جميعًا بأن الأعمال الدّرامية تخضع للرقابة، وبدورها تقوم الرّقابة بتنفيذ الأجندة السّياسية الخاصّة بالدولة وتطلعاتها السياسية، فلطالما كان هناك تدخلات سياسية مباشرة في فرض بعض الأفكار على الإنتاجات الدّرامية ورفض بعضها الآخر مما يؤدي أحيانًا إلى منع عرض الكثير من الأعمال السينمائيّة والدّرامية، هذا فضلًا عن حاكمية رأس المال التّي تفرض على صنّاع الدراما طرح قضايا معينة، وتكريس بعض المفاهيم الثّقافية ومنها التّطبيع، كما حصل مع مسلسل “مخرج 7” و”أم هارون”، وهنا يأتي دور المثقّفين والنخب العربية في مناهضة هذا التّطبيع، بأن يمتنع الممثل والمخرج عن تقديم مثل هذه الأعمال، وكذلك مقاومة الأصوات المتجهة للتطبيع ومجابهتها إعلاميًا وثقافيًا.
استطاع العدو “الإسرائيلي” أن يسيّطر على بعض أنظمتنا وقادتنا، واستطاع أيضًا استغلال الأدوات النّاعمة كالدّراما والإعلام بهدف تلميع صورته والسّيطرة على عواطفنا كعرب، ليجعلنا خاضعين قانعين بجرائمه، ولكنّه سيفشل ولن يستطيع تزييف حقيقة اغتصابه للأراضي الفلسطينيّة وستبقى روايتنا العربيّة هي الأقوى.