جذور التطبيع صهيونيًا
منذ ما قبل قيام الكيان كانت العلاقة مع المحيط العربي محط تجاذب بين الصهاينة، وكان يتنازعها وجهتا نظر:
الأولى دينية ترتكز على نظرة العقيدة اليهودية الفوقية الاحتقارية إلى الشعوب الأخرى باعتبارها اليهود شعب الله المختار وباقي الشعوب لا تدانيه في الفضل، وبالتالي لا مجال للتعامل معها إلا بعقلية السيد الإنسان، قبالة التابع الذي لا يرتقي إلى مستوى الانسانية! ففي التلمود، وهو كتابٌ وضعه أحبارُ الْيَهُودِ: “إن الأُمَمِيين (أي غير اليهود) هم الحَمِيرُ الذين خلقهم الله ليركبهم شعبُ الله المختار، فإذا نفق منهم حمارٌ، ركبنا منهم حمارًا”. وتبعًا لهذه النظرة لا مجال لأية علاقة تطبيع مع الأغيار (الغوييم) بحسب المصطلح اليهودي.
الثانية نظرة سياسية ضمن مخطط الحركة الصهيونية، والتي بلورها زئيف جابوتنسكي في مقاله الشهير “الجدار الحديدي” في العام 1923 متحدثًا عن ضرورة كيّ الوعي العربي من خلال القوة وعدم السماح للعرب بإحراز أي نصر، حتى يصلوا إلى قناعة بعدم إمكانيتهم هزيمة المشروع الصهيوني، وبالتالي أن يخضعوا لضرورة التعايش معه بحكم صيرورته أمرًا واقعًا ليس بمقدرتهم تغييره.
تغلبت النظرة الثانية على الأولى مع تبني بن غوريون، الخصم اللدود للجابوتنسكية، مفهوم الردع المستوحى من جدار جابوتنسكي الحديدي، أي بمعنى ضرورة إيصال العرب إلى قناعة بأنه لا جدوى من مهاجمة الكيان عسكريًا لأن الخسائر المتوقعة أكبر بكثير من الأرباح المرتجاة.
مع انتقال الفكر الصهيوني من مرحلة التأسيس والأحلام، إلى مرحلة “دولة” الاحتلال والواقعية السياسية، والاصطدام بالمحيط العربي، وخاصة مع خروج النظام العربي الرسمي من المواجهة والوقوف بوجه الشعوب العربية، تعاظم الإحساس الصهيوني بغرابة كيانه عن نسيج المنطقة الاجتماعي والثقافي، وتعزز الخوف على مصير مشروعه، فانتقل إلى مرحلة “التطبيع” لتجاوز هذه المخاوف.
واقع التطبيع
يهدف التطبيع، كما يدل جذره اللغوي، إلى محاولة جعل وجود هذا الكيان طبيعيًّا بين شعوب المنطقة، وضمن نسيجها الاجتماعي، بهدف الالتفاف على حتمية زواله في محاولة لتأبيد وجوده في فلسطين المحتلة.
كانت معاهدة كامب ديفيد فاتحة محاولات التطبيع العلني مع الأنظمة العربية، لكنها أسفرت عن خيبة أمل على المستوى الشعبي، وأثبت الشعب المصري بشكل عام صموده أمام تلك المحاولات، بل على العكس تنامت عقلية رفض التطبيع والتعاون مع الصهاينة رغم مرور أكثر من أربعة عقود على المعاهدة المذكورة، وهي تكاد تشابه التجربة الأردنية بخلاف ما شهدناه مع المعاهدات التي “اقتنصها” العدو مع دول عربية منذ حوالي العام (الإمارات، البحرين، المغرب والسودان).
حقق العدو مكاسب دبلوماسية وسياسية وتجارية من خلال هذه الاتفاقيات الأخيرة والتي تمت بفضل إدارة ترامب التي أتقنت لعبة “العصا والجزرة” مع الكيانات التي طبّعت مع العدو.
طبعًا كل هذه الكيانات هي كالكيان الصهيوني من ناحية كونها “مخلفات استعمارية” تتبع المايسترو الغربي الذي رفع بوجهها “عصا” التخويف من إيران ورمى أمامها “جزرة” جوائز الترضية بحسب كل نظام وما يعنيه، حتى تم الإعلان علانية عن هذه الاتفاقيات بعد دهر من علاقات الأبواب الخلفية.
ولكن ما هو رأي الصهاينة؟ وما هي تطلعاتهم؟
يرى المحللون الصهاينة أن ما جرى هو “انتصار وإنجاز سياسي هام” للكيان، ويبدون رضاهم عن نتيجة تجربة العلاقات مع الإمارات بخاصة التي تسير بشكل أسرع مقارنة مع بقية البلدان المطبعة! ويركزون على النجاحات على الصعيد التجاري والمالي لما للإمارات من مركز مرموق في هذا الاطار بخلاف المغرب والبحرين والسودان. وكذلك هناك انفتاح كبير على الصعيد الثقافي والشعبي مع الإمارات! أما مع المغرب والبحرين فهناك تنامٍ في العلاقات السياسية والدبلوماسية بخلاف الجانب السوداني الذي لم تشهد العلاقات الثنائية معه أي تغيير بعد “التوقيع”.
تحديات التطبيع صهيونيًا
أما من ناحية تحديات عمليات التطبيع والتي يرى محللون صهاينة أن لها تأثيرًا سلبيًا على تسارع وتيرة الخطوات في العلاقات مع هذه البلدان، فقد لخصتها دراسة صهيونية بنقاط أربع:
1- سياسة الولايات المتحدة بعد سقوط ترامب وتغيّر نهج الإدارة الأميركية الجديدة.
2- القضية الفلسطينية وحساسيتها ورفض بعض الدول التطبيع أو تحجيمه قبل التوصل إلى حل نهائي لها.
3- القضية الإيرانية وخوف دول الخليج من المشروع الإيراني والإضرار بمصالحها، وبالتالي سعيها إلى علاقات متوازنة مع إيران والكيان بدل الارتماء الكلي في الحضن الصهيوني.
4- موقف الشارع العربي الذي يخالف الأنظمة الرسمية ويدعم القضية الفلسطينية ويعادي الكيان بنسبة عالية جدًا.
التطلعات الصهيونية
يرغب الصهاينة في تتنامي علاقات التطبيع في اتجاهين اثنين:
1- تطبيع عمودي: أي تعميق العلاقات (سياسيًّا وتجاريًّا وثقافيًّا وشعبيًّا) مع الدول التي أقامت علاقات مع الكيان.
2- تطبيع أفقي: بحيث تنضم دول أخرى إلى إقامة علاقات مع الكيان بعد تذليل العقبات آنفة الذكر.
وفي الخلاصة الاستراتيجية لعلاقات التطبيع يتحدث الصهاينة عن هدفين كبيرين لها:
1- الأول تغيير مزاج الشارع العربي وجعله يتقبل وجود الكيان ضمن جغرافية المنطقة كأحد مكوناتها التي لا تقبل الجدل ولا المعارضة.
2- تقديم الكيان نفسه كدرع للدول العربية في مواجهة إيران ومشروعها وتقديم نفسه كبديل للغطاء الأميركي في حال خروج أميركا من المنطقة مستقبلًا، لتحويل وجوده إلى ضرورة للدول العربية.
توصيات صهيونية
وبناء على هذه التطلعات، وسعيًا نحو تحقيقها من وجهة نظر العدو، قَدمتْ دراسة من معهد دراسات الأمن القومي الصهيوني (INSS)، في جامعة تل أبيب المحتلة، باشراف يوئيل (جويل) غوزنسكي(1)، جملة توصيات سياسية، ويمكن اختصارها بما يأتي:
1-ضمن المدى الأوسع للسياقات الاقتصادية، يجب على “الكيان” إعطاء الأولوية للمبادرات التي تركز على تحسين ظروف جيل الشباب في هذه البلدان. وهذا عامل استقرار للدول العربية وعامل لتحسين صورة “الكيان” لديها.
2- محاولة إدخال مصر والأردن في الشراكة مع دول الخليج والمغرب والسودان، وخاصة في المجال الاقتصادي، ما يحقق مكاسب دبلوماسية ويقلل احتمال عدم الاستقرار داخل حدود “الكيان”.
3- “للكيان” مصلحة كبرى في سوق دول الخليج، لكن يجب على رجال الأعمال الصهاينة والرواد تجنب الحماسة المفرطة وعدم مضايقة السوق هناك، وخاصة أنه سوق له خصوصية وهو مفتوح وترتاده عناصر معادية للكيان، الأمر الذي يتطلب الحذر، وخاصة في تسويق التقنيات الحساسة. وعلى رجال الأعمال الصهاينة التحلي بالمصداقية والامتثال للقوانين المحلية وتعلمها وتعلم متطلبات الثقافة المحلية.
4- الاستفادة من العرب الموجودين في فلسطين المحتلة وخاصة إتقانهم اللغة العربية وفهم ثقافة الدول المعنية وبالتالي ضرورة دمجهم في العلاقات النامية وفي الوفود الاقتصادية وامكانية الاستفادة من استثمارات هذه الدول في المناطق العربية في “فلسطين المحتلة”.
5- في الساحة الفلسطينية يجب أن تكون اتفاقيات التطبيع حافزًا لمنع أي تصعيد عسكري (مع حماس وغيرها) أو تحويله إلى تصعيد محدود قصير الأمد من أجل تجنب تداعياته السلبيىة على هذه الاتفاقيات.
6- يجب على “الكيان” أن يشجع عناصر العالم العربي التي تقيم علاقات معه، سواء أكانت رسمية أم غير رسمية، على إظهار استعدادها للمشاركة في إعمار قطاع غزة من أجل كسب نقاط في واشنطن.
7- يجب على “الكيان” أن يعمل مع الولايات المتحدة للاستفادة من هذه الاتفاقيات لصالح تحسين صورته على الساحة الدولية وتحسين علاقاته مع الدول الإسلامية في آسيا وأفريقيا.
طبعًا المقال يلخص وجهة نظر العدو ممّا يسمونه بالتطبيع، وهو مفهوم يرمي إلى تعمية العيون حول حقيقة هذا المسخ الصهيوني وتركيبته الشاذة، وهو مفهوم “احتيالي” بكل ما للكلمة من معنى، ولا ينطلي إلا على كل ذي خفة في عقله أو خفة في انتمائه الوطني والديني والإنساني.
الكيان الصهيوني مخلوق هجين غريب عن نسيج المنطقة تبعًا للمقاييس الأنتروبوسيولوجية، رغم كل عمليات التمويه الاستيطيقية والبوليتيكية، تحت عناوين الأمر الواقع والتطبيع والمصالح، لمواءمته مع محيطه، ومحاولة تأبيد وجوده في بلادنا، خلافًا للقوانين والسنن الطبيعية والإلهية، وتجاوزًا عن العوامل التي تؤكد حتمية زواله، وتبشّرنا بيوم تُرسم فيه خريطة المنطقة في كل بقاع العالم وكتبه وقواميسه وهي تحمل وسم: «فلسطين»… فقط فلسطين.
هامش:
(1) د. يوئيل (جويل) غوزنسكي: باحث أول في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، ومنسق ملف التعامل مع إيران والخليج في مكتب رئيس وزراء العدو للأمن القومي. تركز أبحاثه على الأمن والسياسة واقتصاد الخليج وتشمل أيضًا القضايا الإستراتيجية في الشرق الأوسط.