في ستينيات القرن الماضي كتب المفكر الجغرافي المصري جمال حمدان: “إلى هذا المدى وصلت الرجعية العربية: اشترت بقاءها هي ببقاء “إسرائيل” وضياع فلسطين، وكانت لكي تعيش على استعداد لأن تصل إلى حد التحالف مع الشيطان. إننا لا نحارب “إسرائيل” وحدها ولا الاستعمار خلفها ولكن الرجعية العربية معهما على حد سواء”. وفي حقبة السبعينيات كان قلم الأديب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني يضرب في الرجعية نفسها. في مقال نشره في كانون الثاني/يناير 1970، افتتح كنفاني مقاله المعنون بـ”الحلف السري بين السعودية وإسرائيل”، بالقول: “لا يتمثل التواطؤ غير المكتوب بين السعودية وإسرائيل فقط في حقيقة أن النفط العربي يضخ من السعودية إلى الشرايين الأوروبية تحت الحماية “الإسرائيلية”، بثمن يدفعه النظام السعودي نقدًا لجعل “إسرائيل” قادرة على توفير حماية أفضل، في الأرض السورية المحتلة لمصالح الإمبريالية، ولكن يتمثل أيضًا في الأنباء التي تقول إن الأرامكو، بالاتفاق مع الحكام السعوديين بالطبع، فقد وافقت سرًا على إعطاء “إسرائيل” ما قيمته 20 مليون”.
تختصر كلمات حمدان وكنفاني الكثير، لنقول إن العلاقات بين دول خليجية والكيان الصهيوني لا ترتبط باتفاقية التطبيع الموقعة في 15 أيلول/سبتمبر 2020. الخطوط المفتوحة تستبق المصافحات العلنية تحت سقف البيت الأبيض، ومنها ما تم توثيقه أو تسريبه إعلاميًا، من لقاءات رسمية على هامش مؤتمرات دولية، إلى زيارات لأفراد من العائلات الحاكمة أو لمستشارين للأراضي المحتلة، إلى التنسيق الأمني الذي سهل عمليات تصفية مقاومين، وأكثر.
الإمارات ومقايضة ترامب
إماراتيًا، تعود جذور العلاقات المفتوحة مع “إسرائيل” إلى العام 1994، وفق ما ينقل سفير الكيان الإسرائيلي في ألمانيا، جيرمي إيسخاروف، بصفته أول دبلوماسي إسرائيلي يلتقي مسؤولًا إماراتيًا، وهو جمال السويدي الذي كان يعمل مستشارًا سياسيًا لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وقد أنشأ وقتها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الذي كان يُستخدم قناة خلفية للتطبيع مع الجانب الإسرائيلي، ولعقد لقاءات بين مسؤولي الطرفين. وفي صيف العام 2006، بينما كانت الصواريخ ““الإسرائيلية”” تكدس المجازر والدمار في لبنان، كانت الإمارات تفتتح مكتبًا للعلاقات التجارية بينها وبين كيان العدو في دبي وتبرم الصفقات معه في مجال الشحن البحري فاتحة أمامه موانئ دبي. لم تقتصر الخطوط المفتوحة بين الجانبين على هذا المجال، موضوع التنسيق الأمني كان حاضرًا، إحدى نتائجه على سبيل المثال لا الحصر عملية اغتيال القيادي في كتائب عز الدين القسام محمود المبحوح في أحد فنادق دبي صيف العام 2010.
ما الذي استدعى خروج هذه العلاقات إلى العلن بصورة قطعت فيها الإمارات صلتها بالشوارع العربية والإسلامية؟ الدراسة التي أعدها معهد البحوث الاستراتيجية في المدرسة العسكرية في باريس، في تشرين الثاني/نوفمبر، بعنوان: “دول الخليج و”إسرائيل” بعد اتفاقيات إبراهيم”، تقدم إجابة، فتعتبر أن الخطوة أتت مدروسة جيدًا، أراد منها محمد بن زايد “ممارسة تأثير دبلوماسي أكثر فعالية على البيت الأبيض. وقد خطّط لذلك القرار مستشاره المقرّب يوسف العتيبة، سفير الإمارات العربية المتحدة في واشنطن. أثناء الأزمة مع قطر، قامت الدبلوماسية الإماراتية، بمساعدة السعودية، بتمويل شركات اتصالات وعلاقات عامة أميركية وثيقة الصلة بـ”إسرائيل” وبالدائرة المقرّبة من الرئيس ترامب. وقد ساعدت العلاقة القوية بين السفير الإماراتي وصهر الرئيس ترامب جاريد كوشنر، في إقناع الرئيس الأميركي بتبنّي السرديّة الإماراتية، حيث وضع هذا الأخير جماعة الإخوان المسلمين على قائمة المنظمات الإرهابية في نيسان/أبريل 2017″، وكان على الإمارات أن تقدم المقابل، إنجاح خطة ترامب المعروفة بصفقة القرن، وعندما فشلت كانت اتفاقيات التطبيع، التي أقرت الدراسة نفسها “أنها لا تقدم جديدًا على صعيد دفع عملية السلام”، بمعنى أنها ورقة غير مؤثرة على مستوى الصراع العربي “الإسرائيلي” كون المشيخات الخليجية المطبعة حجزت فيه مكانها مبكرًا، لا في الوسط بل كطرف يمتهن الخيانة فعلًا، وإن لعنها قولًا.
وبحسب الدراسة نفسها فإن الجديد الذي تقدمه اتفاقيات التطبيع هو السماح لـ “إسرائيل” بالحضور “في شبه الجزيرة العربية والخليج الفارسي”، في مواجهة “التهديد الإيراني” المتنامي. هي السردية الممولة والمعتمدة خليجيًا منذ سنوات، على سكة تبرير كل صور الخيانة. كلما انغمس الخليجيون في خيانة أكبر، كان التهويل من “البعبع الإيراني” واحتلاله لعواصم عربية، وهيمنته على قرار حكومات في المنطقة، ومده الكاسح الذي يدفع العرب لأحضان “الشيطان” حتى وإن كان “إسرائيليًّا”. ألم يُكتب هذا بصراحة في صحف السعودية، وردده المقربون من ابن زايد في تغريداتهم، واستنسخته صحف البلاط البحريني؟ ألم تتبنَّه الذمم الناقصة وتعممه في خطابات تؤكد يوميًا ارتزاقها للرجعية التي تعادينا منذ قررت أن وجودها أهم منّا جميعًا؟
وبعيدًا عما ذهبت إليه الدراسة الفرنسية، عندما يحضر الحديث عن الجزئية الإماراتية لا شيء يعلو على المؤرق لابن زايد؛ “الإخوان المسلمين”. وللعداء الشرس هذا أسبابه، فرغم انحسار التأييد المعلن للتيار الإسلامي بموجب إجراءات السلطة، إلا أن ذروة صعود التيار الإسلامي في الإمارات في حقبة الثمانينيات حتى بدايات التسعينيات والتأثير الذي سجلته أنشطة هذا التيار ونفوذه في المؤسسات التربوية وبين الجيل الشاب، كانا مزعجَين ومخيفَين بالنسبة لأبناء زايد تحديدًا. ومع عودة صعود نجم التيار الإخواني إقليميًا، بدعم تركي – قطري، بعد موجة ما عرف بـ “الربيع العربي”، كان مجمل التحركات الإماراتية يصب بثقله في كل مكان ممكن أن يحجم هذا النفوذ، في دعم الإمارات لفصائل معارضة سورية ضد أخرى، أو في إمداد الإعلام المصري للضرب بصورة الإخوان، وإسناد عبد الفتاح السيسي لاحقًا، أو في تخندقها ليبيًا أو يمنيًا. بلا استطراد هي سياسة عداء مستحكم لم تعدم فيها الإمارات وسيلة إلا واستخدمتها، حتى أشهرت عداءها لكل ما يلتقي مع الإخوان في خانة “الإسلام السياسي”.
لم تقف دوافع الإمارات هنا، بل ذهبت للتوقيع على الاتفاقية مدفوعة بوعود أميركية – “إسرائيلية” بالسماح للإمارات بالحصول على مسيّرات مسلحة وعلى 50 من مقاتلات الشبح F-35، التي لا تزال قضية بيعها إلى الإمارات عالقة إلى اليوم رغم خروج تأكيدات من واشنطن عن اعتزامها المضي قدمًا في الصفقة. كما أن مشروعات مشتركة في مجالي السياحة والبنية التحتية، لا سيّما في المدن الساحلية المطلّة على البحر الأحمر، حيفا وإيلات، وكذلك سقطرى، وتوسيع التعاون التجاري بين الجانبين كانت تدخل في حسابات الإمارات، التي سرعان ما حجزت لها مكانًا في منتدى غاز شرق المتوسط يعوّل عليه الإسرائيليون كثيرًا ويفسر الصراعات المحتدمة اليوم في المنطقة.
البحرين والتطبيع: مجرد ريتويت
ماذا عن الدوافع البحرينية؟ هل يمكن أن تسقط عليها الاعتبارات الإماراتية؟ حتمًا لا! فالتيار المحسوب على الإخوان المسلمين لا يشكل تهديدًا، بل على العكس شكل رافعة وإسنادًا لنظام يتنفس على الفرز الطائفي واستعداء الشيعة. كل التيارات الإسلامية وغير الإسلامية معززة في البحرين لناحية المكتسبات، طالما أن الجلد مستمر في المكوّن الشيعي ذي الاعتبار الديموغرافي والانتماء الأصيل لبلد تجهد سلطته في محاربة الحقائق الديموغرافية بحملات تجنيس سياسي على أساس طائفي. يسقط هنا أكبر الاعتبارات إماراتيًّا. وفي الحقيقة كل الاعتبارات السابقة تسقط أيضًا. في الخصوصية البحرينية، اعتبار واحد يسود: الضغط السعودي. وهنا يذكر معهد البحوث الاستراتيجية في باريس أن البحرين لم تسعَ “إلى التقارب مع إسرائيل، رغم وجود تعاون وثيق بين الدولتين في المجال الأمني… حيث فُرِض عليها التطبيع مع “إسرائيل” في أعقاب الإعلان الإماراتي في 13 آب/أغسطس 2020، وتحت ضغط من محمد بن سلمان ودونالد ترامب، والذي كان متلهّفًا لتحقيق نجاح دبلوماسي للتغطية على فشل “صفقة القرن” التي دبّرها صهره”، هذه هي حدود القصة في البحرين.. مجرد ريتويت!
السعودية “وراء كل خيانة”
وعلى الرغم من أن اتفاقية التطبيع أو ما يُطلق عليه “اتفاقية أبراهام” لم تتضمن توقيعًا سعوديًا، إلا أن البصمات الخليجية كانت تتطابق مع تلك التي تعود لمحمد بن سلمان، الرجل الذي وُصف بكونه واحدًا من أبرز عرابي التطبيع بنسخته الأخيرة، إلى جانب محمد بن زايد. لكن ماذا عن الدوافع؟ من ضمان العرش، إلى تكريسه كملك قوي بإسناد أميركي ينتشل أمير الحروب الخاسرة من كل مستنقعاته، إن لم يخضها بدلًا عنه. ومقابل هذين العنوانين كان محمد بن سلمان مستعدًّا لأن يقدم كل شيء، حتى أنّه وهب نفسه بالكامل للأميركيين، يتلقى إهانات رئيسهم أمام الإعلام بابتسامة يجهد في أن تبدو واسعة وواضحة. انقلب محمد بن سلمان على إرث آل سعود في الداخل كليًا، مغيّرًا وجه بلاد الوهابية بالكامل، وكل ذلك من أجل أن يقدَّم أميركيًا وغربيًا كملك مجدد مؤسس للسعودية الرابعة. وأمام سلة الأهداف التي يركز عليها ابن سلمان، كان التطبيع مسارًا لا بد منه. وفي الوقت الذي كانت الصورة تُلتقط للإمارات، كانت السعودية تُحرك إمكانياتها خلف الكواليس، ليبدو التطبيع مع “إسرائيل” بصورة المرحب به والمقبول عربيًا وإسلاميًا، يجر دولًا إليه ممهدًا الطريق للعبور العلني للسعودية، على مبدأ القبول بالأمر الواقع بعدما سبقها إليه الجميع.
بالتهديد كانت تجر السعودية الآخرين، فتخيب هنا وتنجح هناك؛ في باكستان، لوحت السعودية بترحيل العمالة الباكستانية من أراضيها واستعادة قرض بقيمة مليار دولار كانت قد منحته لإسلام أباد في العام 2018، دون أن تتمكن الضغوط من تحقيق الهدف. واستخدمت الاستثمارات كورقة ترغيب لأندونيسيا وجيبوتي، بلا نتيجة تذكر، في الوقت الذي تمكنت فيه الجهود السعودية من جر كوسوفو والمغرب والسودان لإعلان التطبيع. وكانت تقارير صحفية “إسرائيلية” ذكرت أن السعودية تعمل على دفع الدول العربية والإسلامية للتطبيع مدرجة أسماء عشر دول منها: النيجر ومالي وموريتانيا وجزر القمر وبروناي وبنغلادش والمالديف.
خطوة خلف أخرى كانت تذهب السعودية إلى تطبيع لن يكون مستهجنًا، بعد سلسلة خطوات ومواقف وتقارير صحفية هيأت الأرضية، وبات التطبيع مقترنًا بصورة عهد ابن سلمان. من لقائه برئيس الحكومة ““الإسرائيلية”” السابق بنيامين نتنياهو بمدينة نيوم السعودية، اللقاء الذي سربه الإعلام “الإسرائيلي” وذكر بعده استياء الرياض من هذا التسريب، إلى التصريحات الرسمية المتتالية، التي لم يكن أولها وصف بندر بن سلطان للمواقف الفلسطينية الرافضة لاتفاقيات التطبيع الخليجية بأنها “تجرؤ هجين” وغير مقبول، تلاه بعد أشهر تصريح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الذي قال إنه “لا يعرف ما إن كانت هناك صفقة تطبيع وشيكة بين بلاده و”إسرائيل””، وإن “التطبيع سيحقق فوائد هائلة للمنطقة كلها”، ومؤخرًا موقف المندوب السعودي لدى الأمم المتحدة من أن الرياض مستعدة للتطبيع شرط تطبيق تل أبيب “مبادرة السلام” (التي طرحت عام 2002).
لماذا قد يبدو ذلك مستغربًا؟ هذا هو السؤال المنطقي. هل هناك من لم يرَ عبر الشاشات صور محمد بن سلمان تُحرق في ساحات فلسطينية في محاكمات شعبية للرجل لم تجرؤ عليها الحكومات؟ هل هناك من لم يقرأ عن الضغوطات “الثقيلة جدًا” التي مارسها ابن سلمان ضد الأردن والسلطة الفلسطينية لجرهما من آذانهما للبصم على تصفية كاملة للقضية الفلسطينية، بالموافقة على صفقة القرن؟
في شباط/فبراير 2019، استقبل الملك السعودي رئيس السلطة الفلسطينية. صوّرت الشاشات السعودية الحدث على أنه في إطار موقف المملكة الملتزم بدعم القضية الفلسطينية، إلا أن الوقائع التي سربتها المصادر الفلسطينية لصحيفة “القدس العربي” لاحقًا كان تثبت العكس تمامًا. يومها تلقى محمود عباس رسالة واضحة من الملك الهرم، الذي لوح بقطع المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية بحجة أن بلاده ستتعرض لضغوطات من قبل إدارة ترامب في حال واصل الفلسطينيون رفضهم التعامل مع صفقته. هكذا هي السعودية والمال توظفه ترغيبًا وترهيبًا، وهو السيناريو نفسه الذي اعتمدته لإنجاح أوسلو في العام 1993. والمعلومات كشفها كتاب إسرائيلي بعنوان “لماذا السلام؟ الدوافع السياسية لانضمام منظمة التحرير الفلسطينية لعملية أوسلو” للباحث الصهيوني شمعون كارمي، الذي أكد أن منظمة التحرير الفلسطينية اضطرت لتوقيع اتفاق أوسلو بعدما رفعت السعودية التمويل عنها وأدخلتها في أزمة كبيرة.
أمام واقع التزامات السعودية تجاه تصفية القضية الفلسطينية، تحضر الحقائق بالجملة، تتكدس والتاريخ يكرر نفسه، تنغمس السعودية في مشاريع التآمر على الأمة ويقف أبناء الشعوب العربية يرددون ما كتبه غسان كنفاني في حقبة لم تشهد محمد بن سلمان لكن شهدت خيانة سلالته: “السعودية وراء كل خيانة ، وإذا وقعت خيانة في أي مكان فابحثوا عن السعودية”.
تحيّة للزميلة والصديقة إسراء الفاس على قدرتها الجميلة في معالجة الموضوعات التي تطرحها…وحبّذا لو ربطتي يا صديقتي بين هذه المنهجيّة في عملية ما يسمونه السلام وبين مشروع التطبيع الجاري حاليا تحت مسمّى الديانة الإبراهيمية أو الدبلوماسية الروحية الإبراهيمية..