تمحورت فلسفة التطبيع مع العدو “الإسرائيلي” حول فكرة لخلق مصالح مشتركة تستطيع أن تتفوق على فكرة العداء والحرب وتبعاتها، بهدف الاعتراف بهذا الكيان وإسباغ الشرعية على جريمة الاحتلال والقتل والتهجير وسقوطها بالتقادم.
ولصعوبة الفكرة واستحالتها أمام حجم الجريمة الصهيونية وأمام تاريخ الصراع المتجذر في الوجدان العربي وأقطاره، استلزم التنفيذ حصارًا على رافضي الفكرة والمتمسكين بالثوابت والمقاومة، مع تسهيلات دولية ووعود بالرخاء للمطبعين لبيان الفجوة بين المطبع والرافض، كنوع من أنواع الإكراه وفرض هذه السياسة بالقوة وتحت سطوة الأمر الواقع.
ومع كل هذه العقود من محاولات الترغيب والترهيب، إلا أن الفكرة لا زالت مرادفة للجريمة والخيانة والعار، ولا سيما مع وجود مقاومة أثبتت جدوى الكفاح وهشاشة العدو من جهة، وكذلك عدم تقديم هذا العدو أي تنازلات أو امتيازات لمن انساقوا في هذا العار وتلطخوا به وأقدموا على التطبيع، من جهة أخرى. وهو ما أعطى قناعة عامة مفادها أن التطبيع هو لدرء المفاسد فقط عن الأنظمة لا لجلب المنافع للشعوب!
كما سقطت جميع الذرائع التي حاول المطبعون التذرع بها، بشأن مصلحة القضية، وأن تطبيعهم يصب في خانة السلام والتوصل لحلول، وبالتالي تحقيق المصلحة الفلسطينية، حيث اصطدمت هذه الذرائع بواقع الجرائم الصهيونية والمضيّ قدمًا نحو التصفية التدريجية للقضية دون أدنى مداراة أو محاولة لحفظ ماء وجه المطبعين، ناهيك عن السقوط الأخلاقي لهذه الذرائع، حيث مجرد الاعتراف بالعدو هو مشاركة في جرائمه وتنازل مهين عن الحقوق، وضياع لا شبهة فيه للكرامة والشرف، وإهدار للتضحيات ودماء الشهداء.
ورغم أن مصر هي التي افتتحت مشهد الاعتراف بالعدو في جريمة تاريخية ووصمة كبرى تسمى اتفاقيات كامب ديفيد، وما تبعها من معاهدة للسلام المزعوم، إلا أن التطبيع وفقًا للهدف الجوهري منه، لم يستطيع أن يحقق شيئًا، حيث لا معنى لاقتصاره على الجوانب السياسية والأمنية، في غياب البعد الثقافي والشعبي، والذي يستطيع العصف بكل الاتفاقيات وجعلها حبرًا على ورق، عند توفر الظروف الملائمة لظهور البعد الشعبي واحتلاله مكانته اللائقة بحجمه ووزنه في معادلات اتخاذ القرار.
ولأن جميع التحليلات والتقارير تستند إلى غياب التطبيع الشعبي، وبالتالي تبدو مطمئنة نسبيًّا إلى الشعوب وإلى فشل التطبيع، رغم انتشاره الظاهري وكسبه لمواطئ قدم جديدة في الخليج والسودان والمغرب، فإن من واجبنا هنا أن نقرع جرس الإنذار، رغم انطلاقنا من أرضية مشتركة مع المطمئنين إلى فشل التطبيع في نهاية المسار. ولكن ما نحذر منه هنا هو الكلفة في مسارات فشل التطبيع، فبينما يمكن أن تكون الكلفة بسيطة ومشرفة في مسار، فإنه بالمقابل يمكن أن تكون الكلفة كبيرة وغير مشرفة في مسار آخر. وبينما يمكن القضاء على التطبيع ومواجهة العدو عبر جهد موحد ونتائج أسرع ورفع رايات الشرف والبطولة مهما سقط من شهداء، فإنه يمكن الاكتواء بنار التطبيع ورفع رايات الاستسلام والخزي وظهور نتائج الفشل بعد وقت طويل يشهد استنزافًا للشعوب ويسقط به ضحايا دون وسام للشهادة أو البطولة بل فطائس للتطبيع!
ويمكن تلخيص ما نود قوله كما يلي:
1 – علينا أن نفرق بين الرفض المبدئي والرفض الوجداني للشعوب، فإن الرفض المبدئي هو قيمة أخلاقية تورث للأجيال وتغرس فيهم كقيم الخير والشر والحلال والحرام، وهو ما يعطي مناعة شعبية متوارثة تستطيع أن تصمد أمام التضليل ومحاولات الإغراء أو التهديد، بينما الرفض الوجداني قد يؤثر في جيل دون غيره، حيث شهد الجيل الرافض للتطبيع الحروب والمجازر، وقدمت مختلف العائلات شهداء في المعارك مع العدو، بينما بعد فترة من غياب الصراع المسلح في غالبية الأقطار العربية، والتمكين لأنظمة المهادنة، يمكن أن يغيب هذا العامل الوجداني وتسقط الجريمة بالتقادم في ظل مناخ يشوبه التضليل والدعايات المكثفة للتطبيع ولتشويه المقاومة.
هنا يمكن للرفض الشعبي أن يتقلص تدريجيًّا ليصبح معه التطبيع أمرًا واقعًا، ويعطي قبلة حياة للكيان تهدر المزيد من الوقت وتخوض معها الشعوب مزيدًا من التجارب الكارثية الناتجة عن فخاخ التطبيع، لتصل في نهاية المطاف إلى حقيقة الصراع الوجودي بينها وبين العدو، ولكن بعد دفع أثمان غالية من الفقر والمرض والانحلال والتفسخ المجتمعي، بل والصراعات البينية التي تذوقت الشعوب بأس بعضها بعيدًا عن العدو!
2 – علينا ألّا نغفل أهمية الجانب التوعوي للشعوب، لأن هناك أجيالًا شبّت في مناخ للسلام المزعوم، وفي مناخ يتسم بالتدهور الثقافي والتعليمي والإعلامي، حيث تشكلت ثقافتها على دعايات لا حقائق، فمنهم من وصله أن الفلسطينيين باعوا أرضهم للعدو وأنهم يتصارعون على السلطة وجميعهم خونة وانتهازيون، ووصله أن المقاومة هي ميليشيات إرهابية تطمح للسلطة عن طريق القوة.
ولعل أخطر ما ترسخ لدى قطاعات كبيرة من الأجيال الجديدة هو مفهوم وحيد للسياسة وهو المفهوم الميكافيللي وأن المصلحة الشخصية لكل قطر هي السياسة وهي الغاية التي في سبيلها تبرر جميع الوسائل، وهو ما يجعل هناك قبولًا، وربما الأدق هو تمرير لكثير من السياسات المتناقضة مع الأخلاق والقيم.
3 – الذهنية العامة للشعوب لا تستطيع التكيف مع الحياة من دون صراع ومن دون وجود عدو، والأنظمة كذلك لا تستطيع الحكم والسيطرة من دون حشد الشعوب لمواجهة عدو، وهي حقائق وسنن كونية، ولكن ما يحدث هو توظيف هذه الحقائق لخدمة الأباطيل، فما حدث هو استبدال للعدو الحقيقي بأعداء آخرين، وهو استبدال متفاوت في وقاحته؛ فبينما استبدل البعض العدو الرئيسي بأعداء ثانويين وأقل في أولوية الحشد والاستعداد تحت مسمى الإرهاب أو الطوابير الخامسة، استبدل من هم أكثر وقاحة العدو بمحور المقاومة باعتبارهم هم أعداء الشعوب وهم الإرهاب، وهي أعلى درجات الخيانة والوقاحة والفجر.
ولا شك أن هناك إرهابًا وهناك طوابير خامسة، وهي تشكل عداوات للشعوب، ولكن مشغلها هو مشغل العدو الصهيوني، وبالتالي فإن العودة للصواب ومعرفة العدو الحقيقي والرئيسي والجهوزية له ومقاومته ستشمل كل ما يندرج في قائمته من الأعداء الفرعيين والصغار في معسكره. وهو ما يجب إيضاحه للشعوب في إطار التوعية والشرح والبيان، والذي لا يجب التوقف عنه، لأن جبهة الوعي هي جبهة من جبهات المقاومة وسلاح ينبغي الحفاظ عليه وحمايته كسلاح المقاومة.
كل المحاولات الراهنة للتطبيع ونشره، هي محاولات يائسة لإطالة عمر كيان زواله حتمي، وما يعنينا هنا ألا تخسر أجيالنا شرف المقاومة، وألا تقع في فخ تجربة المجرب في بلاد اكتوى بنيران جوانب صغيرة من التطبيع. ففي مصر ورغم التطبيع الخجول، إلا أن الآثار الصحية والاقتصادية والمجتمعية يجب أن تشكل رادعًا للشعوب الأخرى التي وُعدت بالرخاء رغم محصلة عقود طويلة من الوعد بالرخاء منذ كامب ديفيد!
وعليهم تأمل الوضع الفلسطيني الراهن بعد عقود من أوسلو وأشباهها!
لو لم تستطيع الشعوب تغيير أنظمتها أو تغيير توجهاتها وسياساتها، فعلى الأقل بإمكانها رفض التطبيع وإعلان مواقفها، وهو أضعف الإيمان.