كتبتُ في مناسَبَات عديدَة أنَّ التّطبيعَ مَع العَدّو “الإسرائيلي” هوَ تَصفيرٌ للصّراعِ العَرَبي – “الإسرائيلي” مِن حيثُ الأسباب والنتائِج. الخطّة تَقتَضي أن نصدّق أن لا “إسرائِيلَ” سَبَتَ واحتلَّت فلسطين ولا هيَ قَتَلَت أبناءَها ونحرَت بُطونَ نِسائِها وسَحَلَت أجسادَ أطفالِها.
الأصحّ أيضًا أن نَقول إن التّطبيعَ تَصفيرٌ لكل تاريخ المقاومَة التي نَمَتْ وصَمدَتْ ورفضَتْ الاحتلال واستبسلَتْ وأُسِرَتْ واستشهدَ أبطالُها منذ العام 1948 حتى اليَوم.
هذا أخطَرُ مَكامِن التّطبيع، أعني بِه ليسَ تَصفيرَ النّضالِ الفلسطيني والعربي فحَسب، بَل زرعَ قناعَةٍ جديدَةٍ في الضّمير الجَماعي العَربي بأنَّ المقاوَمَة كانَ بمِقدورِها أن تُطَبِّع طِوالَ فترَة مقاوَمَتِها وكانت وفّرَت بِذلك مئات آلاف “القَتلَى” مِن الجانِبَين “الإسرائيلي” والفلسطيني.
التّطبيعُ من هذا المَنظور هوَ تَوزيعُ المسؤوليَّة التاريخيَّة على طَرَفَي الصِراع وتَدميرٌ فِكريٌ شامِلٌ لجدليَّةٍ تاريخيَّةٍ لَطالَما سَكَنَت الوَعي الباطِني العَرَبي وهو أنَّ الظالِمَ هوَ الصّهيوني والمَظلوم هوَ الفلسطيني.
أسهَل طَريق لشيطَنَة المقاومَة هوَ طَريقُ التّطبيع. إنّه يدلّ بشكلٍ لا يَربو الشكّ إليه على أنَّ المقاوَمَة إرهابٌ وأنَّ “إسرائيل” دولَةٌ غير عنصريَّة وحقُّ الدّفاع عَن نفسِها كانَ وسَيبقى مبرّرًا.
تَحويلُ “إسرائيل” إلى كيانٍ طَبيعي يَتعايش مع العالَم العَرَبي هوَ البَديلُ عن الحروب “الإسرائيليَّة” التي كانَت تشنها لِتدمير المقاوَمَة والبَديلُ عن “حروب” المقاوَمَة ضِد “إسرائيل”. هذا هوَ الشّكلُ الجديد للحرب ضِد مِحوَر المقاومَة والممانَعَة؛ المساواة بينَ القاتِل والقَتيل، بينَ الظالِم والمَظلوم وبينَ المستَوطِن وصاحِب الأرض.
إرهاصاتُ هذه الحرب الجديدَة تتماهَى مَع الشرقِ الأوسط الجَديد كما تراهُ “إسرائيل”، أي الممتدُّ مِن النيلِ إلى الفرات، وهوَ شرقٌ أوسَط تحوَّلَ منذ أوائِلِ التسعينيات مِن شعارٍ إلى خِطَّة لَها مفكّرونَ استراتيجيون وميزانيات ضَخمَة ثمَّ استُعجِلَ تنفيذها على أرضِ الواقِع منذ عدوان تمّوز 2006 وباشرَ بِتطبيقها الرئيس الأميركي الأسبَق دونالد ترامب عبرَ ثلاثيَّة نقلِ السفارَة الأميركيَّة إلى القدس، وتَشجيع بناء المستَوطَنات “الإسرائيليَّة” تَهويدًا للأرض الفلسطينيَّة، ثمَّ اعتِبار حَرَكَتَي حَماس والجِهاد في غزَّة إرهابًا. النّموذَج توسّعَ بعد هذا التاريخ وتتالَت الأحداث بسرعَة وصولًا إلى اتفاقات “أبراهام” وتَوقيع عدّة دُوَل عربيَّة اتفاقيات سلام مَع “إسرائيل”.
التّطبيع مَبني عَلى الوعود بالرّخاءِ والبَحبوحَةِ والاستقرارِ الاقتِصادي والأمني. لبنان سَبَقَ وأن قاوَمَ هذه الإغراءات عَلى أيام دونالد ترامب الذي أوفَدَ صهرَه منذ ثلاثِ سَنوات حامِلًا بِضعَةَ مليارات مِن الدولارات إلى لبنان شريطَةَ قبولِنا بِتَوطين الفلسطينيين. التّطبيعُ كانَ مقدّرًا لَه أن يمرَّ عبرَ لبنان. فشلُ المخطّط دَفَع بالمُخَطِّطين إلى اعتِمادِ الخِطّة باء.
ثورَةٌ ملوَّنَةٌ بدأت في 17 تِشرين 2019، إسقاطُ مؤسسات لبنان الواحِدَة تِلو الأخرَى، والأهمُّ الأهمُّ إفقارُ لبنان وتَجويعُ شَعبِه، إرساءُ ثَقافَةِ قبولِ “الإسرائيلي” كَمواطِنٍ في دولَة تمرُّ في هذا الوَقت بالتّفقير والتّجويع في لبنان.
لبنان بالأساس أرضٌ خَصبَةٌ “إسرائيليًّا”. يُحكى عن التطبيع في الإعلام اللبناني عَلى أنه باتَ وِجهَة نَظَر. خطورَةُ الكَلام لا تنبَعُ مِن حيث إنه صَدَر عَن إعلامي وعَن وسيلَةٍ إعلاميَّةٍ كانَ من المفترضِ أن تتقيَّدَ بقانونِ مقاطَعَةِ “إسرائيل” وباعتبارِها عدوّةً على أهميَّة هذا المِعيار. الكَلامُ يدلُّ على أن التّطبيعَ باتَ على ألسِنَة طَبقاتٍ اجتماعيَّةٍ تتسامرُ بِه عَلنًا في لبنان.
كانَ التّطبيعُ مَع “إسرائيل” “تابو” في لبنان يَتجنّبُ المؤمِنونَ بِه أن يُجاهِروا بِه. اليَوم المجاهَرَةُ والمطالَبَةُ بالتطبيع تَكاد تَكُونُ علنيَّةً في ظلّ سكوتٍ للقضَاء والمؤسسات الرّقابيَّة.
البُنَى الفِكريَّة الَمطلوب زرعُها باتَت مَكشوفةً تتلخّص برسائِل استراتيجيَّة واضِحَة: “لَقَد قامَ لبنان بواجبِه القَومي ضد “إسرائيل” فماذا فَعَل العَرَب؟”، “بَدَلَ أن يَدعَموا لبنان في مقاوَمَتِه ها هُم يوقّعونَ اتفاقيات سلام مَع العَدّو”. منطق آخَر: “نحنُ آخِر دولَة تَعقد سلامًا مَع العدو، وقَريبًا سَنكون الدولَة الوَحيدَة التي لم توقِّع بَعد”. منطق آخَر: “هَل تريدونَ إقناعَنا حقًّا أنَّ المقاومَة قادِرَة عَلى إلحاقِ الهَزيمَةِ بـ”إسرائيل”؟”، ثمّ “انظروا إلى الذينَ وقّعوا معاهدات مَعها كيفَ أنهم مستقرونَ في أمنِهِم واقِتصادِهِم، ألَم يَحِن الوَقت لنوقِّع نحن ونَرتاح؟”.
بالمحصَلَّة نحنُ أمام مرحَلَةٍ في غايَة الخطورَة يحاوِل فيها “الإسرائيلي” أن يَحصدَ أوّل نتيجَةٍ عمليَّةٍ للتّطبيع. إزالَةُ قَناعَةٍ تاريخيَّةٍ مَفادها أن “إسرائيل” عدوّ وزرعُ قَناعَةٍ بَديلَةٍ مَفادُها أنَّ “إسرائيل” دولَةٌ يمكنُ أن نتبادَلَ معها علاقات طبيعيَّة.
تَصويرُ الصراع العَرَبي – “الإسرائيلي” على أنه من ترسباتِ الماضي الذي يَجِبُ أن نتخطّاه تَمامًا كَما تخطّت الإنسانيَّةُ على مَدى تاريِخِها الحروبَ المفصليَّةَ الدينيّة منها والمذهبية والعرقية. بالتّوازي مع هذا الهَدَف يَجِبُ أن يصلَ “الإسرائيليُّ” بِحسَب المخطط إلى تَحويلِ الصراع العَرَبي – “الإسرائيلي” إلى صِراعِ فلسطيني – “إسرائيلي” تتولّى البروباغاندا “الإسرائيليَّة” لاحِقًا تَسطيحه وتَسخيفه ليتحوّلَ إلى مشكلَةٍ حدوديَّة بسيطةٍ بينَ الفلسطينيين و”الإسرائيليين”.
تصفَيةُ القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ لا يمكنُ أن تتمَّ بسلاسَةٍ وأمانٍ إلا عبرَ هذه الادوات بالتّحديد والتي يشكِّلُ فيها التّطبيعُ عروةً وُثقَى.
المعرَكَةُ المقبِلَةُ برأيي لَن تَكون معرَكَةَ ميركافا ولا معركةَ “إم كامِل”. في وادي الحُجَير أذلّت المقاومَةُ هذا الطراز من الدبّابات، و”إسرائيل” تُدرِكُ أن حَربَها المقبِلَة مَع لبنان لَن تَكونَ مؤلّلَة. الحَربُ سَتكونُ حربَ عزلِ النّموذَج المقاوِم، تحويله إلى قوةٍ لا يمكِنُ الاستثمارُ فيها، وصمُها بأدواتِ البروباغاندا المتاحَة، وهي ضَخمَة، بالإرهاب، خلقُ توتّراتٍ بينَها وبينَ بيئِتِها ومحيطِها والعَمَلُ على تَحقيقِ بؤرِ تنميَةٍ مستَدامَةٍ مَع الدول العربيَّة التي وقّعَت اتفاقيات سلام وتَعاون استراتيجي.
في هذا الجوّ الجَديد سيتحوّلُ الشّهيدُ الفِلسطينيُّ إلى قَتيلٍ في الإعلامِ العَرَبي والمقاوِمُ إلى الإرهابي.
نحنُ جيلٌ ترَبّى على أنَّ “إسرائيلَ” شرٌّ مُطلَق، ويَستَحيلُ على أي تَطبيعٍ أن ينزَعَ عَنها هذه الصفَة في ضَميرنا الجَماعي.
تربّينا على أن وجود “إسرائيل” هوَ السببُ الأولُ والأخيرُ لكلِّ المَشاكِل والحروبِ التي عانَينا منها في لبنان ويُعاني منها العالَم العَرَبي.
تَربّينا على أنَّ التّطبيعَ معها هوَ تَطبيعُ أنظِمَةٍ وليسَ تَطبيعَ شعوب. حاوِلوا أن تسألوا مصريًّا أو أردنيًّا أو خَليجيًّا عمّا إذا كانَ مستعدًّا للتّصريح بأن فلسطين ليسَت وَطنًا محتلًّا وأنَّها ليسَت للفلسطينيين. سيرفضُ التصريح بذلك حتى على حدّ السّيف.
إنّما هذه المناعَةُ القَوميَّةُ لا تَكفي وحدَها. على المقاوَمَةِ كَمِحوَرٍ أن تقدِّمَ نَموذَجًا جديدًا ومُبدِعًا قابلًا للتّطبيق. بالتأكيد ليسَ النّموذَج القائِلِ بالنّضالِ الدبلوماسي.
تَوسيعُ مروَحَةِ تحالفاتِ المقاومَة وزيادَةُ مِنعَتِها في الدّاخِل اللبناني، وضعُ خطّة لاستِعادَة الضّمير الجَماعي اللبناني مِن منطِق التّطبيع، استِقطابُ كَوادِر وطنيَّة مِن جَميع الطّوائِف، تَقديمُ نَموذَج حداثَة يُعتَمَد في المواجَهَة يستَقطِبُ الشّباب، الخروجُ من قَدَرِ إفقارِ لبنان عبرَ مبادَراتٍ شُجاعَة ومبدِعَة وخارِجَ القوالِبِ التقليديَّة الجاهِزَة، تنوّعُ التحالفات الداخليَّة، إطلاقُ ورشَة حِوار وَطَني حولَ الأولويات والثّوابِت، وعدد من المبادِرات المبدِعَة الأخرَى يمكنَ أن تكوِّنَ نُواةً مَقبولَةً للمواجَهَة على أن تُرفَدَ من عشَرات الدّول التي ما زالَت بعيدَة عَن مَرمَى “أبراهام” والتّطبيع.
هناكَ فرصة تاريخيَّة لمِحورٍ بكامِلِه لِيعدَّ العِدَّة مِن أجل مواجَهَة تاريخيَّة ستأخذُ وقتًا -صَحيح -إنما تستَحِقُّ أن تُخاض. فرصَةٌ يَجِبُ الاستِفادَةُ منها طالَما أن قِوى عُظَمى على مستَوى العالَم ملهيَّةٌ بِصراعاتٍ متجدّدةٍ في بِقاعٍ بَعيدَة عَن محيطِنا المباشَر.
العَقلُ الاستراتيجيُّ للمقاوَمَة مَطلوبٌ منه اليَوم قبلَ الغَد الدّعوَةَ إلى خليَّةِ نِقاشٍ تضمُّ مفكّرين وفلاسِفَة وإعلاميين استراتيجيين يَضعونَ بالسرعَة الممكِنَة استراتيجيةً ضدَّ التّطبيع خارِجَ الشّعارات الرّنانَة والمَهرجانات الطّنانَة.