اعتاد أغلب اللبنانيين منذ وقتٍ طويلٍ على قضاء سهرة رأس السنة مع عائلاتهم في المنازل، فإمّا تجتمع العائلة في منزل فردٍ منها -صاحب البيت الأكبر أو منزل العائلة- أو إن كانوا في عمر الشباب فيجتمعون في منزل أحد الأصدقاء. طبعًا، هناك من يسهرون في المطاعم والملاهي والحفلات وغيرها، ولكنهم قلّة بالنسبة لمن يسهرون في المنازل.
يبدأ الأفراد بالتجمع حوالي الساعة الثامنة، فيدخل كل واحد منهم حاملًا بيديه إمّا نوعًا من الحلوى أو العصائر والمشروبات الروحية أو أكياس الشيبس وغيرها. قد يتناولون طعام العشاء إن اتفقوا على هذا، ويكون بكل الأحوال عشاءً خفيفًا كطعام البوفيه من السندويشات الصغيرة والمتنوعة، إذ يعتمدون في السهرة على تناول الوجبات الخفيفة أو الـsnacks ويبدأون سهرتهم التي بالغالب تكون على إحدى شاشات التلفزة اللبنانية. وتبدأ السهرة بقدوم قارئ أو قارئة أبراج وصاحب توقّعات ليخبرهم كيف سيكون حظّهم في السنة القادمة.
قد يبدو هذا الأمر شبيهًا بأساطير العصور الوسطى ولكنه كان يلقى ويلقى وسيلقى اهتمامًا بالغًا في لبنان، فتجد وقتَ عرضها من بدأ بإسكات الناس والطلب من الحضور خفض أصواتهم ورفع صوت التلفاز كي يسمع جيدًا ويركّز بإمعانٍ ليعرف ماذا تخبّئ السنة الجديدة لبرجه وحياته ولبنان وحتى العالم.
قد يظن الشخص أنّ من نتكلّم عنه هو إنسان بسيط، غير متعلم، غير مثقف، من بيئة يطغى عليها الجهل والعادات القديمة التي تؤمن بالخرافات. ولكن هذا الواقع ليس صحيحًا، فهذا الإنسان هو شخصٌ لبنانيٌّ عاديّ، وهو متعلّم ومثقف، وقد يكون من حملة الشهادات العليا حتى، ولكنه وجد في كلام أحد الدجّالين صدقًا في السنة الفائتة أو التي قبلها فأصبح من متابعيه السنويين.
من هم المتوقّعون وقارؤو الأبراج؟
لنبدأ من نقطة مهمة، والعديد من الناس يجهلونها؛ علم التنجيم أو الـastrology ليس علمًا معترفًا به، بل إنه نُقض من العلماء الذين لم يجدوا له أي أساس ولا دليلًا واحدًا على صوابية تأثير الأبراج على تصرفات الفرد أو قراراته أو خياراته، كما يرفضه الدين كذلك، فصبّ علم التنجيم في مصبّ العادات والتقاليد للاستئناس.
لن ندخل في موضوع تفسير الظواهر التي صودف فيها حصول بعض الأمور التي تذكر عن أصحاب الأبراج، إذ كُتب الآلاف من هذه الأطاريح، وفي لبنان عمومًا الشعب يقرأها ويسمعها للاستئناس فقط لا غير.
أما أصحاب التوقعات، فقد نالوا شهرةً كبيرة في لبنان وحتى العالم العربي، على مدار السنوات وذلك لعدة أسباب منها كثرة الأحداث والتقلبات في منطقتنا عمومًا ولبنان خصوصًا. طبعًا، ليس هناك من ضرورة لذكر أنّ التوقعات ليست علمًا معتبرًا لا علميًا ولا دينيًا؛ فحتى أصحاب التوقعات لا يجرؤون على ادّعاء معرفتهم المستقبل والأمور الغيبية بل هم يعتبرون أنّ لديهم موهبة مستقاة من متابعات وتحليلات متعمّقة وشبه حاسّة سادسة تساعدهم على استنباط هذه التوقعات. بعض الناس يزيدون على هذه الأسباب ويقولون إن أصحاب التوقعات يتعاملون مع الجنّ والمخابرات العالمية، لكي لا يبدوا حمقى عندما يذكرون أنهم يصدّقونهم.
ما سبب تعلّق اللبنانيين بأصحاب التوقعات؟
الشعب اللبناني من أكثر شعوب العالم قهرًا، هو شعب يمرّ عليه في السنة الواحدة مصائب عقود من الزمن عند شعوبٍ أخرى. هو شعبٌ كذبوا عليه بتاريخه وماضيه، فكلّ طرفٍ في لبنان يسرد تاريخًا مغايرًا مناقضًا للتاريخ الذي يسرده الآخر، وهو شعبٌ يُكذَب عليه يوميًا من قِبل السياسيين والزعماء، وحتى الإعلام. ويكفي لهذه التجربة أن تسمع مقدمات الأخبار على الشاشات اللبنانية وتلاحظ كيف تتغيّر سردية الخبر نفسه بين المحطة والأخرى حتى تبدوَ مغايرةً تمامًا، فإمّا الكل يكذب وإما كل محطة تعيش في بلدٍ مختلف. وهذا الشعب نفسه الذي كُذب عليه في الماضي ويُكذب عليه يوميًا في حاضره، ينتظر العديد منه ليلة رأس السنة كي يسمعوا أشخاصًا يكذبون عليهم في مستقبلهم أيضًا.
لقد بات هذا الأمر اليوم إدمانًا. نحن نهرب من الحقيقة، فهي سوداويةٌ أكثر من قدرتنا على التحمل مع أنّ العديد منّا يعرفها جيّدًا ولكن يتجاهلها من أجل الحفاظ على سلامة قواه العقلية.
لا عجبَ في هذا، فالشعب اللبنانيُّ يبحث في كل ثانية عن أمل، يبحث عنه في خطابٍ سياسي، في مقال جريدةٍ أميركية ونشرةِ أخبار سعودية، في موعدِ انتخابات ونظرةٍ من عيني رئيس فرنسيّ، في ملفّ نووي إيرانيّ وتصريحات رئيسٍ تركيّ، في كل زاوية من زوايا الأرض، وعقب كل مغيب شمس، كيف لا، وهو شعبٌ حاضرُه مبهمٌ ومجهولٌ قبلَ مستقبله؟ يريد أن يسمعَ ولو كذبًا أملًا لطيفًا ناعمًا يساعده على الصبر كي لا يشعر بأنه يصبر للا شيء، هو كالتائه في الصحراء يلحق سرابًا، يريد أن يرى من يقول له: “نعم، هناك ماءٌ عند آخر الطريق، هناك ضوءٌ في آخر النفق الكئيب، لن تمشي مقابلَ لا شيء، عطشُك سيُروى وتعبُك سينتهي يومًا لا محالة، لن تجد نفسك انتهيتَ حيثُ بدأت”.
أوقاتٌ عصيبة وسنين كئيبة نعيشها، كمن يُدفنُ حيًّا ولا يستطيع تحريك لسانه كي ينبّه المعزّين، فكلّما اسودّ حاضرُنا أكثر وقبُحت حقيقتُنا أكثر، كلّما تعلّقنا بالكذب أكثر.