اعتاد العرب في مطلع قصائدهم الوقوف على الأطلال، فالطَّلل مرحلة زمنيَّة لانعكاس المكان على ذات الشَّاعر. الدُّخول والحومل عند امرىء القيس أعادا له زمنًا غائبًا، فاسترجع الزَّمن في ذاكرته بواسطة المكان. في هذا التَّعالق الزَّمكانيُّ أتت اللُّغة بألفاظها الاعتباطيَّة كما وصفها اللِّسانيُّون لإخراج السِّرِّ الَّذي يعتري اختلاجات الإنسان في زمن محدّد وانعكاس المكان عليه إلى العلن.
ليس الحبُّ حالة مستعصية، ولا الموت، ولا الفراق، ولا الولادة، إنَّما الزَّمن هو حالة مستعصية.
في الطَّاقة المتكرِّرة والمتجدِّدة والمتوازنة أيضًا يحكمنا تكرارٌ ما بشكل مماثل لذاته لا ينتهي، وفي مجموعة من الأحداث المرتبطة مع بعضها بعضًا وفي حالات متشابهة في زمن لا نهائيٍّ ولا محدود بحسب فكرة العود الأبديِّ عند نيتشه، فنحن تكرار للشَّيء ذاته في أزمان مختلفة.
في رواية الغريب لألبير كامو يصور حركة البطل الزَّمنيَّة المتسارعة الأحداث المكرَّرة، إذ يبدو البطل معدم التَّفاعل مع كلِّ ما يحيط به، وعندما يُسجن الغريب يحاول إدارة احتياجه للأشياء الَّتي اعتاد عليها من خلال إدارة انعكاس الزَّمن عليها، حتَّى يدرك في النِّهاية أنَّه يستطيع التَّعوُّد على الحالة الطارئة الَّتي تواجهه شيئًا فشيئًا ليقهر مرَّ الزَّمن، وأنَّ المرء في النِّهاية يعتاد على كلِّ شيء، إنَّها مسألة انقضاء الزَّمن.
في حالته المستعصية يعطينا الزَّمن أثره؛ في خطوط الوجه، في اختلاجات القلب واضطراباته، في الذِّكرى واللُّغة، وفي الأحداث المتكرِّرة وفي كلِّ ما يحيط بنا، في الفصول الأربعة، في الخسوف والكسوف واقتران الكواكب العظيم، وفي الفضاء، حتَّى في السُّكون للزَّمن أثره، كلُّ ذلك ينقضي ويبقى الزَّمن وحده الحالة المستعصية.
عندما أضاف أينشتاين بُعد الزَّمن إلى الأبعاد الثَّلاثيَّة صوَّرنا أجسامًا محكومين بالزَّمن، ومحكومين بالسُّرعة أيضًا، إذ لا يمكن أن نشعر بالمكان من دون أثر الزَّمن فيه. كيف استطاعت مخيِّلة الإنسان تصوير الزَّمن أو تحويله إلى مادَّة حقيقيَّة؟
نحن محكومون لهذا الخطِّ الوهميِّ الَّذي نشعر بأثره من دون أن نعرف له تصوُّرًا حقيقيًّا. قد نقيس الزَّمن في السَّاعة والثَّانية والدَّقيقة، لكن ما الَّذي يمايز البارحة عن اليوم، أو اليوم عن غدٍ؟ لا نلمس الزَّمن إلَّا بالأثر الَّذي يخلِّفه في أرواحنا، إنَّها حاجة فلسفيَّة ملحَّة؛ قد يحرِّرنا التَّخلِّي، ويأسرنا الشَّوق، ويلهمنا الاستحواذ، قد نفرح ونحزن بحسب تفاعلنا الرُّوحيِّ مع ما تمليه أفعالنا علينا مع الزمن. إنَّه فعل ما ورائيٌّ بين الزَّمن والمكان وأرواحنا والأثر.
لن يختلف اليوم عن غد بفعله المادِّيِّ أو قيمته العمليَّة، لكنَّه سيختلف بحسب الأثر الَّذي سيتركه فينا.
بين “إنَّ الله لا يلعب بالنَّرد” والبعد الزَّمني الرَّابع عند أينشتاين، لم يحصر الفضاء فقط بل امتدت نظريَّات فلسفيَّة عدَّة، وقوى غير مرئيَّة، وطاقة تجذبنا حتَّى في الأحلام ما زالت غامضة لكن لا يمكن أن نشعر بها إلَّا من خلال الزَّمن.
لن تختلف 2022 عن 2021 إلَّا بالأثر.