في صفحة الإهداء من كتابي (من هو البحريني؟) وضعت اسم الشيخ علي سلمان ضمن قائمة الشخصيات المؤسسة للوطن التي أهديت لها الكتاب، الشخصيات التي كان يقلقها سؤال البحريني، ويدفعها لتقديم مصالحها الشخصية وأمنها الخاص من أجل صياغة جواب في شكل وطن حقيقي، يحفظ للجميع حقوقه. تُسمى هذه الشخصيات في الأوطان الحرة (الآباء المؤسسون). من هم الآباء المؤسسون؟
هم من يملكون شجاعة التأسيس لا المسايسة، تأسيس فكرة الوطن، القانون، الدستور، الحقوق، المؤسسات التشريعية. هؤلاء الذين يشكل نضالهم انعطافة تاريخية في مسيرة الوطن. إنهم ليسوا الحكام والسلاطين والرؤساء، فهؤلاء قد يكونون جلادين وطغاة وقتلة للآباء المؤسسين.
لماذا الشيخ الحاكم في منطقة الخليج ليس من الآباء المؤسسين؟ يُجيبنا أحد المناضلين والمؤسسين، الراحل جاسم مراد: “الشيخ في منطقة الخليج هو شيخ بيت، يهتم بقبيلته وعائلته، يُكوّن جيشًا، يُكوّن بوليسًا، وحرسًا وطنيًّا، ويصرف ثلث الدخل على هذا الأمر، وثلث الدخل الثاني له ولقبيلته ولعائلته، والثلث الباقي يصرفه على الشعب”.
هكذا يتحدث الآباء المؤسسون، بخطاب يملك قوة التشخيص وعمق الرؤية والجرأة في صياغتها في عبارات واضحة. في كانون الأول / ديسمبر 2012 كان صوت الشيخ علي سلمان يصدح في مهرجان شعبي عنوانه (الشعب صاحب القرار)، يقول: “إن زمن العبودية وأن يبقى القرار لدى شخص واحد انتهى”.
التأسيس للحرية، والخروج من زمن العبودية، يحتاج لآباء؛ فالحرية تُولد وتحتاج إلى قوة طلْق وأب مسؤول، يتحمل الدفاع عن حرية الوطن، وينتزع هذه الحرية متى تسلط شخص واحد وادعى أنه الأب الواحد الأحد للوطن.
(قوة الطلق) ليس مجرد مجازًا، بل هي ألم معاناة حقيقي يتجاوز إنجاب الطفل إلى تحمّل أذى ملاحقة مصائر الطفل وهو يُهجَر ويُلاحق ويُسجن. يقول الشيخ علي: “ورأيت أنفاس والدتي المتقطعة من تعب ما لحقها من أذى في أولادها، فهي لم تخلُ طوال ثلاثين سنة من ابن مهجر، أو ابن سجين، وآخر عاطل عن العمل، وآخر يعاني آثار التعذيب طوال عمره”.
الآباء المؤسسون بقدر ما يُحمِّلون أمهاتهم تجارب الألم نتيجة لما يتعرضون له، فإنهم يَحمِلُون منذ طفولتهم معاناة أمهاتهم ومكابدات آبائهم، يحملونها ليس كهموم شخصية، بل جماعية ووطنية، يُدركون أنها صور مصغرة عن أمهات كثيرات وآباء كُثر في وطنهم، هذه واحدة من ميزاتهم الفريدة، لا يَبقَون في همومهم العائلية الصغيرة، ولا يبحثون عن حلول شخصية ولا يتقوقعون في الخلاص العائلي، كما يفعل الشيخ الحاكم في الخليج، بل يُحوّلون كل محنة ألم شخصية أو عائلية إلى مرافعة وطن.
من يحملون شرف التأسيس لا يكتفون بنسيان آلامهم الشخصية والعائلية، وتذويبها في آلام الوطن، بل يتعالون حتى على مشاعر الكره التي تتولد في النفس الإنسانية تجاه من يتسبب لها بالألم والمعاناة. يقول الشيخ علي في إحدى رسائله المُسَرّبة من السجن: “لم أختبر مشاعر كرهٍ تجاه من يقف وراء اعتقالي، وإن ترَسّخ لديّ إيمان أعمق بقبح ما يفعلون”. مشاعر الكره تخلق تخندقات تخنق الوطن، واصطفافات تشطر الوطن، وجاهليات تُدمر الوطن. يتجاوز الأب المؤسس غرائز الكره الخانقة والمشطورة والمدمرة، ويخلق مساحات مشتركة تمنح الحب والأمان والطمأنينة.
إنه العام السابع من تجربة السجن للشيخ علي سلمان. تكبر أبوّته وتتسع كل عام، وتغدو جزءًا من الظلامة الإنسانية التي تعرفها شعوب العالم، وفي المقابل تصغر شخصية الحاكم وتزداد مظالمه الإنسانية ويَدلهمّ ظلام عهده. يقترب الأول من صفة الأبوة ويلتصق الثاني بصفة النُزُوَّة، وتبقى الأوطان باسم الآباء المؤسسين لا الحكام النازين.