منذ توقيعه لم يكفّ تفاهم مار مخايل يومًا عن التسبّب بالأرق للعديد من الأطراف اللبنانية والإقليمية وحتى الدولية التي وجدت فيه سدًّا منيعًا بوجه الكثير من المشاريع التقسيمية. ومنذ ذلك الحين، وعند كلّ محطة، يعود موضوع التفاهم إلى التداول، على المستويات كافة.
يومًا يُلام الجنرال عون على توقيعه، ويومًا يُلام حزب الله. يومًا يخرجُ علينا ناطق ليعيّرنا كجمهور “شيعي” بما جنيناه من التفاهم، ويومًا يأتي من يغمز من ناحية “المسيحيين” مسمّيًا إيّاهم بالذميين. هذه قطرات قليلة من بحر القلق الذي تسبب به تفاهم الاستقرار العابر لأطفال السياسة والمارقين على المنابر، الواقعية والافتراضية.
لم يولد تفاهم مار مخايل من عدم، ولا هو نتاج لحظة توافق بلا أرض ولا أفق بين الطرفين الأقوى في البلد. على العكس، فرضت هذا التفاهم ظروف موضوعية تلقفها الطرفان الأقوى تمثيليًا والأنضج سياسيًا، وهما بذلك لم يصبحا تيارًا واحدًا، وليس المطلوب أن يكونا كذلك.
أما عن المستفيد من التفاهم، فالجواب كلمة واحدة: البلد؛ فهذه الورقة ليست ورقة استثمارية يكتسب الموقعون عليها بحسب بنودها وشروطها، وإن كان ثمّة مصلحة مشتركة قد تمّ تأمينها وحفظها من خلال هذا التفاهم فهي لا تنحصر بطرفيه وتشمل كلّ المؤسسات والجماعات والأفراد في لبنان، سواء أدركوا ذلك أم تنكروا له، وسواء توافق ذلك مع أجندات البعض أم لم يتوافق.
منذ حديث جبران باسيل بالأمس، والذي غلب عليه الانفعال الذي لا يُعوّل عليه في تقييم المواقف المفصلية، عادت ورقة التفاهم كمانشيت في غالبية النقاشات. وهنا، لا مجال للوقوف عند صبيانية أي متحدث في شوارع الافتراض يتعاطى مع هذه الورقة وكأنها منحة وهبها للآخر من جيبه الخاص. إلا أن ثمّة نقاطًا لافتة في خطاب الشارع تجاه ورقة التفاهم، ولا سيّما في الجانب الانعزالي منه، والتي يجب تصحيحها كي لا يقع المتحدثون بها في فخ الجهل غير المبرر في القرن الواحد والعشرين.
إليكم خمسة نقاط متكررة منها:
“نحنا دفعنا تمن التفاهم مع حزب الله من علاقتنا بالأطراف المسيحية”
لم تتأثر فعليًا علاقة التيار الوطني الحرّ ببقية الأطراف المسيحية ولم يتغير مسارها. المصالحات التي جرت أتت في سياق طبيعي ومنفصل تمامًا عن تفاهم التيار مع حزب الله، والصراعات الموجودة داخل الشارع المسيحي لم تولد بعد ورقة مار مخايل، ونظرة سريعة على الحرب الأهلية في لبنان تكفي لتوضيح هذه الحقيقة.
“نحنا عم نحمي حزب الله”
بالمنطق، وباعتماد كل المعايير الموضوعية، حزب الله كقوّة تمثيلية -ولا نتحدث هنا عن القوة العسكرية- ليس بحاجة لأي حماية أو غطاء شعبي. وما يُسمى بالغطاء المسيحي -والمقصود به الجمهور المسيحي المناصر نسبيًا للمقاومة التي يمثلها حزب الله- كان موجودًا قبل ورقة التفاهم، وهو أحد العوامل الموضوعية التي فرضت هذه الورقة.
“عم نخسر بالسياسة كرامة حزب الله”
الفكرة مغلوطة شكلًا ومضمونًا. فالسياسة ليست مجالًا تجاريًا تجري فيه احتمالات الربح والخسارة. وفي المضمون، لم يقدم التيار الوطني الحر، وليس مطلوبًا منه أن يقدّم، أي تنازل في ثوابته السياسية سواء توافقت أو تعارضت مع ثوابت حزب الله. وبالتالي ترداد هذه الفكرة مسيء للتيار الوطني الحر ولثوابته التي لا يساوم عليها.
“حميناهم بتموز”
لعل هذه الجملة ومرادفاتها هي من الأخطاء الجارحة والأكثر شيوعًا في الشارع السياسي اللبناني. في حرب تموز، واجه حزب الله، عن الجميع ومن دون منّة وبلا استثناء، الآلة العسكرية الصهيونية العاتية. ومَن ناصره بموقف في ذلك الحين فقد انتصر للحق، وللمعسكر الذي من الطبيعي أن يشعر بالانتماء إليه. لذلك من الغريب أن يرتضي أحد على نفسه معايرة الحق الباذل دمه بأنّه نصره بكلمة أو بموقف.
“حزب الله حامي الفساد ومستقوي بورقة التفاهم”
قائلو هذه الجملة عادة ينتمون إما إلى مؤسسات ينخرها سوس الارتكابات فيهربون إلى تغطية الثقوب بالشعارات البلهاء، وإما إلى جماعات الهَوبَرة والترداد الببغائي لما يقوله الأميركي دون لحظة تفكير واحدة ولو على سبيل احترام الذات. فما يُسمى بالفساد هو منظومة واضحة المعالم والرأس والأهداف، وحُماتها أصلًا لا يخجلون من التصريح بحمايتها، وليس سلامة وبيطار سوى وجهَين لها، فانظروا إلى من يحميهم ثم حاضروا بالفساد وبالمفسدين وبمن يحميهم ما شئتم.
وبعد، تفاهم مار مخايل ليس ورقة في مهب الريح الانتخابية، وليس خاضعًا لأي انفعالات أو كلام غير موزون. وبكل الحالات، من يحسم أمره ليس صبية السياسة ولا المصابين بلوثة الفوقية والعلاقات مع الدول الغربية. وللتفاهم وليّ صادق صنعه وثبّته، قد لا يمتلك وحده خيار فك الارتباط الذي نتج عن هذا التفاهم، لكنّه بلا أدنى شك يمتلك ثقة الجموع بأنّه الأقدر على اتخاذ الخيار الأنسب في ما يخص التفاهم وغيره، الخيار الذي لا يقوم على انفعالات لحظوية ولا على مصالح انتخابية ولا حتى على حسابات تقدّم مصلحة “الطائفة” على مصلحة البلد.فك الارتباط.