وليد عصام الضيقة – خاص الناشر |
يحتاج النظام العالمي الجديد من أجل تأكيد ألوهيته الى المزيد من الذبائح والقرابين في معبده وعند أقدامه.
كشف لنا أحد العرافين” هذا النظام، فاستحضر بصياغة جديدة نصًا “نهاية التاريخ” يعلن موت “الآخر” تاريخًا ومستقبلًا. هذا يعني سقوط وهزيمة “لغة الآخرين” في مواجهة إيديولوجية النظم الغربية المعاصرة بنموذجها الأكثر اكتمالًا: الولايات المتحدة الأميركية.
إنها ليست المرة الأولى التي يبوح فيها الفكر السلطوي الغربي بتألهه. فمنذ أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر، عملت النخب السلطوية الغربية على بناء العمارات المذهبية والإيديولوجية من أجل تبرير وتسويق نظم السيطرة. وفي هذا السياق، أحالت لغة “الآخرين” إلى مستحثات فاقدة لأي معنى، أي الى موضوع لا يثير سوى ضجر وسأم “الذات الاوروبية المتعالية”.
في ظل هذا الفضاء الإيديولوجي، أنجزت النظم الغربية إحدى أهم حلقات توسعها الاستعماري على المستوى العالمي.
إن النظم الغربية، ومنذ بداية اصطدامها بالعالم الإسلامي، كانت تتوخى تحقيق استراتيجيات محددة مفادها أن هذا العالم يشكل التحدي الأشد خطرًا، بل هو الخطر الرئيس على المشروع الغربي الآخذ بالتكوين.
كانت السياسات الاستراتيجية التي رسمت في مراكز الدول الغربية تطمح الى صياغة سياسة مواجهة مع العالم الإسلامي تأخذ بعين الاعتبار المعطيات التالية:
1) إقرار اعتبار العالم الإسلامي الخطر الأول والأخير الذي يهدد الممالك الأوروبية آنذاك.
2) إقرار الممالك الأوروبية بعجزها عن تنفيذ سياسة مواجهة مباشرة مع العالم الاسلامي بهدف صد قواه.
3) إقرار العقل السياسي الأوروبي بمواجهة هذا التحدي واستحالة تغييره.
وهو مخاض طويل، توصلت الذهنية الغربية الى صياغة استراتيجية خاصة في مجابهتها للعالم الإسلامي قوامها ضرورة خوض صراع طويل ضده بهدف تطويق الدائرة الحضارية الإسلامية عبر سياسة توسع أوروبية تقوم أولًا بالسيطرة على الشعوب والمجتمعات المحيطة بالعالم الاسلامي، نظرًا لما تعانيه من ضعف قياسًا على وضعية كلتا الحضارتين الإسلامية في المشرق والمسيحية في المغرب.
إن سياسة تطويق العالم الإسلامي هذه كانت تهدف الى تدعيم القوى الأوروبية الناشئة ومدها بأسباب القوة الاقتصادية والسياسية التي تمكنها من إقامة توازن استراتيجي مع العالم الإسلامي يفرض نوعًا من تجميد اندفاعة القوة الإسلامية. وعلى هذا الأساس اندفعت أوروبا منذ القرن السادس عشر لوضع يدها على المجتمعات الأفريقية كمقدمة للتوسع شرقًا باتجاه آسيا.
لم يتمكن النسق الغربي الحديث من الظفر بكل ما كان يطمح إليه من غايات في تعامله مع الاجتماع الاسلامي، فقد كانت غلبته على العالم الإسلامي عاملًا مفجرًا للتوازنات التي حكمت البنيان الإسلامي التاريخي، حيث فتح باب على عنوان أساسي هو عنوان المقاومة الإسلامية في مرحلة جديدة من تاريخه.
إن التاريخ المَعيش شهد في ظل هذه المرحلة استفاقة جديدة لشعوب العالم والأمم المغلوبة، أسهمت بنصيب أساسي في تهشيم “قدسية” النظم السلطوية المعاصرة، وبالتالي في فتح ثغرة في جدار المذاهب الفكرية المغلقة التي تسوقه وترعاه.
لقد كان لفعل تهشيم القدسية هذا إسهام في مغالبة غفلة الذات ومنعها من التهاوي والسقوط في لغة الغالب، وذلك عن طريق الإصغاء إلى عبَر التاريخ الحديث بما ينطوي عليه من تجارب ومعان.
وإن التركيز على الصراع مع الخارج الاستعماري لن يعفي من المواجهات المحليّة، بل على العكس من ذلك تمامًا، فكلما تعمقت القطيعة بين القوة الإسلامية الناهضة، وبين نظام التسلط الغربي، كلما كان ذلك مقدمة لدورة صراع داخلي مع امتدادات النظام التسلطي الغربي وقواه المحلية، سواء أردنا ذلك أم لم نرد، بغض النظر عما تتوصل إليه القوة الإسلامية الصاعدة وما ترسمه لنفسها من أوليات وطرائق مواجهة فكرية أو سياسية أو عسكرية وما يمكن أن تتسم به من ليونة أو شدة على ضوء معطيات الصراع وطبيعة اتجاهاته العامة والتفصيليّة.