تعاني القنوات التّلفزيونية المحليّة من أزمة مالية خانقة. وقد تفاقمت هذه الأزمة مع انطلاق المظاهرات في الشوارع اللبنانية في منتصف تشرين الأول من عام 2019، مما جعل القنوات تكرس بثها لتغطية أحداث ما أطلق عليه مصطلح الثورة حينها. تلا ذلك انتشار وباء كورونا وإقفال البلاد لفترات طويلة متتالية وصولًا لأزمة انقطاع البنزين وانخفاض قيمة العملة اللّبنانية مقابل الدولار الأميركي. إن كل تلك العوامل أدت إلى غياب البرامج المنوّعة والترفيهيّة، فكانت النتيجة غياب الإعلانات وضعف المردود الماديّ مما زاد من حدّة الأزمة الماليّة للقنوات اللبنانية.
في ظلّ هذه الأزمة التي فرضت على بعض القنوات، ومنها المساس برواتب الموظفين، كان لا بد أن تعمل المحطات التلفزيونية على إيجاد خطط للنهوض بميزانيتها والبحث عن مصادر مادية تساعدها على مجابهة العاصفة الماليّة التي تهدد وجودها ككيان إعلامي في السّاحة اللّبنانية. من هنا كانت ضرورة لجوء القنوات للمطبخ الإعلامي وإعادة دراسة برمجتها الإعلامية والسعي لخلق أفكار جديدة تساعد في جذب المشاهد واستقطاب الإعلانات، كان لا بد من إعداد خطة شاملة اقتصادية إعلامية تضمن فعالية البرامج السّياسية والتّرفيهيّة التي ستقوم القناة بعرضها.
تعتبر قناة الجديد، التي أسسها رجل الأعمال تحسين خياط، من ضمن القنوات اللّبنانية التّي تمر بضائقة مالية حادة. ولمجابهة هذه الأزمة قرر المطبخ الخاص بالقناة وضع استراتيجية إعلامية ارتكزت على أربعة أعمدة هدّامة نلخصها بالآتي:
1- إرضاء المموّل الخليجي والأميركي ببثّ برامج ترمي بسهامها فئة من اللّبنانيين ولتشويه صورتهم.
2- بثّ البرامج التّي تلامس القيم الاجتماعية والثّقافية وتثير الكثير من الجدل.
3- العمل على نظام التفاهة وعرض برامج تجعل من السفهاء مشاهير.
4- الاستمرار بتلميع صورة القناة بإظهارها بصورة المحارب للفساد في لبنان.
إذا أردنا مقاربة الأهداف الأربعة مع البرامج التي تعرضها قناة الجديد، نبدأ ببرنامج “فوق 18” الذي تقدّمه الإعلامية “رابعة الزيات”، ويثير الكثير من الجدل، بسبب ما يطرحه من مواضيع تستفز الفئة المحافظة من المجتمع اللبناني، مثل: الجنس قبل الزواج والمساكنة، امتهان الرجل للرقص الشّرقي… ونتج عن ذلك مهاجمة بعض رجال الدّين للبرنامج. تكمن المشكلة في المحتوى الذي يقدمه هذا المنتج الإعلامي كونه يروّج لتلك الأفكار ويدافع عنها مستندًا لمبدأ الحرية الزائف، لتقوم مقدّمة البرنامج بضرب عرض الحائط بالقيم الأخلاقية والاجتماعية اللّبنانية، مناديةً بحرية الممارسة الجنسيّة خارج الإطار الشّرعي والمقدّس لدى الأديان كافة، داعيةً لكل ما هو شاذ عن الطبيعة، مما عرّض الزيات لكثير من الانتقادت لا سيما بعد مسيرتها الإعلامية المتّزنة نوعًا ما.
على المقلب الآخر، توقّف مؤخرًا عرض البرنامج الكوميدي الساخر “شو الوضع” الذي يقدمه حسين قاووق ومحمد الدايخ القادمان من البيئة الشيعيّة، أي البيئة الحاضنة لحزب الله، واستغلّت القناة كلًّا من الدايخ والقاووق لاستهداف بيئة المقاومة وتشويه صورتها، وبدا ذلك واضحًا عندما رفضت الجديد عرض اسكتش يسخر من طريقة تعامل الأجهزة الأمنية مع فريق الإمارات الذي زار لبنان للمشاركة ضمن التّصفيات الآسيوية المؤهّلة إلى مونديال قطر 2022 ، بينما أبقت على السكتش الذّي يطال الفريق الإيراني، لتتجلى الصّورة ويتّضح الهدف من البرنامج، فما كان من القاووق والدايخ إلّا إيقاف تعاملهما مع القناة على خلفية ما حصل.
في الإطار نفسه، تقدم الإعلامية داليا أحمد برنامج “فشة خلق”، الذي تسخر فيه من بعض السّياسيين والقرارات السّياسية مصوّبة سهاهمها تجاه حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحرّ، ويخدم البرنامج استراتيجية القناة في مراضاة المموّل الخليجي نظرًا لموقفه من الفئات المذكورة. وتضمّن البرنامج الكثير من التضليل لإظهار القناة بصورة المحارب للفساد المستشري في النظام اللّبناني منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وتحميل حزب الله وحركة أمل والتّيار الوطني المسؤولية، ما عرض البرنامج للكثير من الانتقادات إن كان على مستوى المحتوى أو التقديم السّاخر الذي لم يناسب داليا أحمد التّي عرفت بتقديم نشرات الأخبار.
أصدر المؤلف آلان دونو عام 2015 كتابًا تحت عنوان “نظام التفاهة” متحدثًا فيه عن دور الإعلام في جعل الأغبياء مشاهير، وهذا ما اعتمدت عليه قناة الجديد ضمن برنامج “مع تمام” “بلا تشفير” سابقًا، من تقديم تمام بليق الذي نجح في استضافة مجموعة من السّفهاء وخلق الجدل حولهم أمثال: رملاء نكد، وفدوات، ومهى عطية، وغيرهن الكثير الكثير. يقوم البرنامج على الفضائح واستفزازالضّيوف وإيصالهم إلى حالة البكاء أو مهاجمة المقدّم ومغادرة البرنامج، بحيث يجعل منه حديئًا للناس والصّحافة في اليوم التّالي لعرض كل حلقة.
واضحة ٌهي الصورة، حتّى أنّها لا تحتاج إلى التّدقيق في المحتوى الإعلامي الذي تقدّمه قناة الجديد، لنعلم أن ما تقوم به القناة يهدف أولًا وأخيرًا للكسب الماديّ وفتح الباب أمام المال الخليجي، ولم يكن من الجديد سوى تفضيل الميزانيّة على المهنيّة والموضوعيّة، تفضيل كانت محصلته السّعي لتهديم قيم اجتماعية وثقافية لمجتمع بأكمله.