ليست المرّة الأولى التي تقيم فيها المُعارضة البحرينيّة مؤتمرًا صحافيًا في العاصمة اللبنانيّة بيروت، أو في العاصمة البريطانيّة لندن، أو في غيرهما من العواصم الأوروبيّة والغربيّة. فما الذي اختلف هذه المرّة وأثار عقيرة السلطات البحرينيّة، لتحتجّ على الحكومة اللبنانيّة بعد مؤتمرٍ صحافيّ عقدته جمعيّة الوفاق البحرينيّة المُعارِضة قبل أيام لتدشين تقريرٍ حقوقيّ، كشفت فيه «وباء انتهاكات» النظام الحاكم في البحرين؟
يأتي مؤتمر الجمعيّة بعد عشر سنواتٍ من انطلاق احتجاجات ثورة 14 فبراير/ شباط 2011 في البحرين. وما تم سرده في التقرير هو غيضٌ من فيض من حصيلة تقارير كتبتها منظّمات حقوقيّة دوليّة خلال السنوات العشر الماضية، ووزارات خارجيّة بريطانيّة وأميركيّة وأوروبيّة.
فلماذا لم تجرؤ السلطات البحرينيّة على فتح فمها للهجوم على هذه الأطراف، وكانت الجرأة على الحكومة اللبنانيّة فقط؟ وبالتأكيد هو سلوك غير مستغرب من السلطات البحرينيّة، إلّا أنّ المستغرب هو ردّة فعل رئيس الوزراء اللبنانيّ نجيب ميقاتي، وتوجيهه للتحقيق في معلومات وأسماء المشاركين في المؤتمر الصحافيّ، وانتشار حديثٍ عن توجّهٍ رسميّ لترحيل المشاركين في المؤتمر خارج الأراضي اللبنانيّة، بحجّة رفض استخدام لبنان منطلقًا للإساءة إلى البحرين والتطاول عليها، ورفض الإساءة إلى الدول العربيّة الشقيقة، ولا سيما منها دول مجلس التعاون الخليجيّ، بحسب بيان رسميّ من المكتب الإعلاميّ لرئاسة الوزراء في لبنان.
وهنا مربط الفرس، الدول الخليجيّة وما تمثله العلاقة اللبنانيّة مع هذه الدول، لا سيّما بعد افتعال السعوديّة أزمة دبلوماسيّة كيديّة مع لبنان، بسبب تصريحاتٍ قديمةٍ لوزير الإعلام اللبنانيّ السابق جورج قرداحي قبل توزيره، وانتقاده الحرب العبثيّة على اليمن بقيادة السعوديّة، على منصّةٍ إعلاميّةٍ قطريّة، وهذا الذي لم يلتفت إليه الكثير من المتابعين، بالإضافة إلى قيادتها سيناريو مُكرّر لحصارها ضدّ قطر في 2017، بإنشاء تحالف «خليجيّ مصريّ» في هذه الأزمة، والذي شمل «الإمارات والبحرين ومصر» تحت «عباءتها الخضراء».
وفي هذا الجانب الأمور متشعبة ومُعقدة قليلًا، فقد جَبُنت السعوديّة عن الهجوم على المنصة القطريّة، بعد مصالحةٍ خليجيّةٍ أنهت قطيعة دبلوماسيّة وسياسيّة بين «الرياض وأخواتها»، والتي امتدت قرابة أربع سنوات، وهذه المُصالحة لا زالت طريّة وساخنة لم تبرد بعد، وهناك مساعٍ للإيحاء بنجاحها، وفي نفس الوقت كانت فرصة سانحة لاستهداف حكومة لبنانيّة غير مرضي عنها سعوديًا، فضلًا عن أنّها تفتح المجال أمام السعوديّة للهجوم على سلاح المقاومة المتمثلة في «حزب الله»، وهذا ما أكّده وزير الخارجيّة السعوديّ «فيصل بن فرحان» في تصريحاته الإعلاميّة، بل والمُضحك أنّه يُطالب بأن يكون لبنان بلدًا ديموقراطيًّا، وهو وزيرٌ في ظلِّ نظام حكم استبداديّ وقمعيّ ومُفرد ومُطلق في «مملكة الرّمال»، مُغلّف بغطاء «طاعة وليّ الأمر» وفتوى الولاء والبراء.
ورغم استقالة الوزير قرداحي، إلا أنّ ذلك لم يُصلح العلاقات اللبنانيّة الخليجيّة التي تقودها السعوديّة وتوابعها من دول المجلس، وكما توقّع الوزير قرداحي، وهذا ما فتح باب التغوّل بشكلٍ أوسع على لبنان، ومحاولة بسط الهيمنة الخليجيّة من خلال وسائل الابتزاز الرخيصة التي تنهجها حكومات الاستبداد في الخليج بشكلٍ منظّمٍ ضد مواطنيها، وضدّ من تدّعي أنّهم أشقاء في دولٍ عربيّة أخرى.
وبالعودة لردّة فعل السلطات البحرينيّة إزاء المؤتمر الصحفيّ لجمعيّة الوفاق المُعارِضة في بيروت، فهي حلقة غير منفصلةٍ عن مسلسلِ الإيعاز السعوديّ للبحرين برفع الصّوت عاليًا أمام لبنان، فهي أحد التّوابع للقرار السعوديّ والإماراتيّ في مختلف المستويات والأصعدة، وهذا ما يُقرّه ملك البحرين بنفسه في تصريحاته الرسميّة في أكثر من مناسبة.
وحينما نرغب في وصف مشهد الموقفين الرسميّين للبحرين ولبنان في هذه القضيّة بصورةٍ أخرى، فهو أشبه بمحاولة المنامة نقل عدوى وباء القمع وانتهاك الحريّات الإعلاميّة وحريّة الرأي والتعبير وانتهاك حقوق الإنسان، إلى فضاء «بيروت الأنثى» المُتمرّدة على هذه الممارسات، التي هي ممارسات للعُهر والإجرام السياسيّ ضدّ الأصوات الحُرّة والمُقاوِمة، والقبول بذلك ليس مُناسبًا لمن يقود الحكومة اللبنانيّة أو من يدور في هذا الفلك المفتوح، وإلا لن يقلّ مستوى ونصيب شراكته في هذه الجريمة عن غيره، الجريمة التي تُغطّي جرائم أكبر من وباء الانتهاكات في البحرين.