وليد عصام الضيقة – خاص الناشر |
إن تجربة نقل التكنولوجيا هي تجربة مأساوية وتعبر عن البؤس الفكري والثقافي لمختلف القوى والنخب البيروقراطية التي تبنت ودعمت هذا الإيمان، فما زلنا نتعامل مع التكنولوجيا كقيمة مطلقة بحد ذاتها، متناسين أن التقنية ليست في التحليل الأخير إلا استجابة لمتطلبات الحركة الفعلية للاقتصاد.
إن التكنولوجيا المستوردة هي ارتهان جديد للسوق العالمية وليست قطعًا مع أولويات التبعية لهذا السوق، وبذلك تكون هذه التكنولوجيا المستوردة عبارة عن علاقات استغلال جديدة ترسيها السياسات الاقتصادية لبلدان العالم الثالث مع السوق.
أضف إلى ذلك أن التكنولوجيا ليست عنصرًا اقتصاديًا محايدًا، فهناك زمن ثقافي وحضاري يحكم هذا العنصر، فالتركيز على التكنولوجيا الثقيلة لا مكان له في سياسات البنى الإنتاجية المحلية. وهو بذلك عندما يوظف في دورة الاقتصاد التصديري يدخل في سياق منافسة خاسرة مع السوق.
إن استيراد التكنولوجيا لا يولّد إمكانية إنتاج تكنولوجيا، بل هو مجرد استهلاك للتكنولوجيا كسلعة مستوردة من السوق العالمية وخاضعة للاحتكار ولتقلبات الأسعار التي تتحكم بها المراكز الصناعية المتقدمة.
وكم من تجربة إنمائية مُنيَت بضربات مميتة نتيجة للتقلبات التي طالت أسعار هذه التكنولوجيا بين وضع الخطة الإنمائية وبين أسعارها عند التنفيذ.
كما إن هذا النمط التكنولوجي المستورد الذي تستقر مفاعيله في الاقتصاد التحديثي التصديري يعمق الاختلال في ما بين هذا النمط من الاقتصاد والقوى المنتجة التي تشكل الغالبية والتي يجري تهميشها، إنْ في القطاع الزراعي أو في قطاع الخدمات وما تبقى من اقتصاد حرفي وصناعي صغير.
إن النموذج الاستهلاكي المتأورب والذي يجري استبطانه من قبل النخب المشرفة على التعامل مع التكنولوجيا يتجه يومًا بعد يوم إلى القطع بل التناقض مع الغالبية العظمى من قوى المجتمع العاملة أو المعطلة عن العمل وما تحمله من نسق ثقافي قيمي مختلف تمامًا عن النموذج الاستهلاكي الذي فرضه النموذج الصناعي المتقدم.
وإن تجارب شعوبنا في مختلف حالات الحياة من التعليم إلى الطبابة مرورًا بخبراتها الفنية والحرفية وقيمتها الأسرية والجماعية وسلوكها الفردي والجماعي وأنماط مأكلها وملبسها والتي تشكل مجتمعة تصورًا حضاريًا متكاملًا له دورته الخاصة به أيضًا جرى ويجري نفيها وتصفيتها لصالح النماذج المستوردة، لا يمكنه رغم ذلك من محاكاة النموذج الأوروبي نفسه بل يحول إنساننا ومجتمعنا إلى مسخ غير قادر على متابعة الطريق الذي اختطه الناشئة المعتلة.
إنها حالة من التسيّب الشامل التي ولدت انفصالًا وانقطاعًا في دورة الحياة العامة بين النخب السلطوية والتحديثية وبين مسار المجتمع الأهلي بشكل عام، وإنه من المفارق أن تكون قاعدة بنياننا لعالم المستقبل تقليدًا ممسوخًا ومشوهًا لثقافة هذا الغرب نفسه.
إن الثقافة هي الأساس والتبعية لا تفرض بالجيوش فقط بل بثقافة هذه الجيوش أيضًا.
وإن التوجه نحو إيجاد بنى اقتصادية مستقلة ومتوازنة قادرة على الصمود في وجه تحديات الإمبراطوريات الصناعية المستقدمة ليست قرارًا سياسيًا يمكن إنجازه في لحظة تاريخية ما بل هو عبارة عن توجه استراتيجي يصب في هذا الاتجاه حيث تتقاطع فيه إرادة التحرر الفكري والثقافي مع إرادة التحرر السياسي والاقتصادي.
إن تدشين مرحلة تأسيسية إستراتيجية في مواجهة واقع الاحتلال السياسي والاقتصادي ردًا على واقع التهميش في مواجهة النهب يتطلب:
توفير شروط إنجاز الإنماء الصناعي.
إيلاء التأهيل والتدريب المهني والحرفي والصناعي أهمية في منظومة التعليم قادرة على رفد القطاعات المنتجة.
انخراط طبقات وفئات مختلفة في مشروع بناء الدولة الأمة.
توحيد القوى وتحفيز النخب المشاركة القادرة على النهوض بالمتطلبات المستجدة والمتمثلة بتغليب المصالح الثابتة على ما دونها من المصالح المتعلقة بقوى اجتماعية محددة.
تطوير منهجيات معرفية تمتلك الكفاءة في مقاربة ديناميات بين ثقافية وتزامنية في آن معًا.
بناء أدوات تحليل ترتكز إلى مقدمة معرفية ما فوق نظرية.
توفير فرص تحسين وضعية الطبقة العاملة من أجل تثبيتها وتمكينها وتدعيمها لما لها من مكانة ثابتة ضمن دورة الاقتصاد.
ترسيخ بُنى ثقافية تربوية فاعلة في موازاة ترسخ بنى السياسة المركزية نقطة ارتكاز في توجيه وتعيين على عدم الخضوع لعالم المال والقوة.
إحياء السلوك التقوي والتطهري، الروح المنتمية إلى مملكة الله.
مروحة واسعة من منظومة قيمية.
مراكمة أسباب القوة من فاعليات واستراتيجيات.