كانت الحرب فيما مضى في نقطة محددة، يستعمل فيها الخصمان ما تيسر من أدوات عسكرية، سيوف ورماح وسهام وغيرها من أدوات، وكانت القوة البدنية أساسية في حسم المعركة. ولم يكن يتطلب الأمر الكثير من التفكير والتحليل، استراتيجيات حربية محددة، وضع أهم أسسها صن تسو الصيني الشهير، وبعدها تطورت الحرب لتصبح على خطوط ممتدة، لتنتقل بعدها الى مساحات ثنائية الاتجاهات، حتى دخلت الطائرات الميدان الحربي، فأصبحت الحروب ثلاثية الأبعاد.
ظلت الأعمال العسكرية هي الأساس في هذه الحروب، مع وجود بعض الغارات النفسية، حتى ولجنا عصر حروب الجيل الرابع، حيث دخلت التقانة والمعلومات كأداة مساعدة، وكانت الحرب الباردة أحد وجوهها، والصراع قام على الاشتباك من خلال الحلفاء أو الأتباع، كما حصل في فيتنام، وكوريا، وأفغانستان.
لست بصدد التعمق في سمات هذه الحروب، وما يهم هو فتح الباب على مصراعيه حول صراعات الجيل الخامس، الأخطر والأشد فتكًا، ولكن من دون استخدام الأسلحة والقنابل والمدمرات، مع بقائها جاهزة للاستخدام. هذه الحرب تقتضي فتح المسارات على بعضها بعضًا، بشكل تكاملي يرتكز على عنصر المعرفة والمعلومة، فالعسكري ينسق مع الإعلامي وبدورهما يتناغمان مع التقدير الأمني، والثلاثة يقدمون في بعض الأحيان الاجتماعي، الذي ينتظر من الاقتصادي الإداري تأمين بيئة مؤاتية لدخولهم، بيئة فاسدة اشتغل على تجهيزها من خلال منظومات سياسية كونسبيراسية أو أوليغارشية، وكلهم يختبئون وراء الثقافي الذي سيدك الحصون العالية ويزيلها عبر تقنية الطَرق الناعم وسلب الإرادة وتغيير منظومة القيم، حتى يحتل العقول الفردية، فيشكل عقلًا جمعيًا سطحيًا يقوم بالمهام التي أرادها الخصم دون أن يتكبد خسائر في الأرواح أو المعدات.
لست أدري مَن مِن هؤلاء سيبدأ أولًا، ولكن المؤكد أنهم يعملون وفق فريق يدرس المجتمعات، والدول، والمنظمات، خصوصًا المتمردة منها، ويُكثر الدراسات، فهو عدو ذكي، يبحث ويحلل ويقيّم ويفسر، ويبدأ العمل وفق خطة ممنهجة، هي شيطانية بالطبع، كل هدفها تركيع الشعوب عبر إفسادها لإحباطها وتضييع هممها، واستلاب عقولها وإراداتها، تمهيدًا للسيطرة على مقدراتها وثرواتها وإمكاناتها، وتحويلها الى سوق ثقافي وأيديولوجي وتجاري وغيره، يبتلع منتجات الشركة-قراطية الحاكم الفعلي للإمبراطورية وأعني بها الولايات المتحدة ودول الناتو وملحقاتهما.
لا يتسع المقام لشرح كل أبعاد القضية الأخطر على الساحة العالمية في بضع صفحات، وطلبًا للفائدة سأتكلم في كل مقال عن مبحث محدد من استراتيجيات الامبراطورية تجاه الحركات المتمردة كما تسميها هي، وسأبدأ بالعنوان الثقافي، وهو الأهم:
تُشكل العقيدة الثقافية القوة الملهمة والجاذبة لأبرز حركة متمردة في العصر الحالي، حزب الله، وهي القوة الدافعة للعمل والتصدي بوجه الامبراطورية، فهذه الحرب تتطلب قوة وعزمًا وثباتًا قل نظيرها، والوقوف في وجه هذه الإمبراطورية التي لا تكل ولا تهدأ ولا تتوقف محركاتها ليلًا او نهارًا وهي تفتش عن سبل كسر كل نقاط قوة الخصم، دون أن تقيدها أي منظومة مبادئ أو قيم.
أعطي مثالًا في هذا المضمار:
تعمل الإمبراطورية عبر أدواتها الإعلامية، وما أكثرها، على نشر نموذجها الثقافي، الإباحية، والشذوذ، والتعري، تحت عناوين براقة كثيرة، الحرية وفق نموذج سارتر الملعون وزوجته سيمون دي بوفوار، تقبّل الآخر حتى لو كان عاريًا متحيونًا -أجلكم الله-، الانطلاق في الحياة بكل أبعادها، وهذا أصبح جليًا.
المشكلة فينا، إن اعتقدنا أن المعطى الثقافي منفصل عن المعطى العسكري أو غيره. الإمبراطورية لا تعمل وفق المنهج التفكيكي الذي نبرع فيه نحن، بل إنها توعز لجيشها الثقافي بالدخول الى أي مجتمع وضرب دعائمه الثقافية وتجنيد جيش من العملاء الثقافيين (مثلًا الـ NGO’s) يتبعهم قطيع من الأغبياء يؤدون المهام مجانًا، لتفريغ نقاط القوة التي تبني الهوية والانتماء، وهما مكونان أساسيان للعقيدة المواجهة في كل الميادين.
يُرافق هؤلاء، وكل الجيوش وكل القطعان، جيشٌ آخر، مهمته تسفيه وجود المؤامرة وتسخيف معالمها الواضحة.