بوتيرةٍ غير مسبوقة، غزَت وسائل التواصل الاجتماعي حياتنا وفرَضَت نفسها كحاجةٍ ضرورية مُلحّة، تكاد تضاهي بأهميتها حاجات المرء الفسيولوجية الأساسية.
“وسائل التواصل الاجتماعي”، هذا المفهوم الذي يعكس بمعناه الظاهري أبهى مظاهر الإيجابية والإنسانية والسلمية، بحكم أنه موجّه لجعل المجتمعات أكثر تواصلًا وتداخلًا وتفاعلًا، غيّر بشكل غير مسبوق أنماط حياتنا، وأسلوب عيشنا، حتى كدنا نصدّق أنه كما لا حياة دون غذاء، فلا حياة دون “انترنت”!
لا إنكار للإيجابيات
لم تترك وسائل التواصل الاجتماعي مجالًا من مجالات الحياة إلا وطرقت بابه، جسّدت العالم بصورةٍ افتراضية ومنحت الحق لكل فرد فيه بأن يستفيد منه بما يراه مناسبًا.
تناقل الناس أخبارهم عبرها، وتبادلوا خبراتهم العلمية والاقتصادية من خلالها، وفتحت مجالات التعلم واكتساب المعرفة أبوابها على مصراعيها، وغرق العالم بكمٍ هائل من الحملات التسويقية والإعلانية والدعائية، وغدت للكثيرين منبرًا للدعوة الدينية ومقاومة الظلم والاضطهاد ونصرة الضعيف والحث على أعمال الخير والتطوع.
إذًا، تشعبت الإيجابيات، ولم تقتصر فقط على ميدان واحد، بل ظهرت آثارها في الميادين الحياتية كافة التي عَبَرت إليها وسائل التواصل الاجتماعي. لكن ليكون المشهد أكثر عدلًا، ولتكون الرؤية أكثر وضوحًا، كان لا بد من النظر لهذا المفهوم وقراءة آثاره من زوايا أخرى، زوايا مظلمة، ربما جهلها البعض وتجاهلها البعض الآخر.
تواصلٌ اجتماعي أم انعزال إنساني؟
إن التعمّق في مفهوم وسائل التواصل الاجتماعي، والغوص في آثاره الجانبية، يجعل المشهد أكثر غموضًا وتصدعًا، كلوحةٍ فنّية أثارت إعجاب وإقبال الناس، وعندما طال التأمل في تفاصليها تبدّلت مشاعرهم من الدهشة والإعجاب الى التردد والشك، ولعلّ أكثر ما يمكن الحديث عنه في هذا المجال، هو التجسيد الوهمي للعلاقات الإنسانية في إطار العالم الافتراضي.
طالت وسائل التواصل الاجتماعي مشاعرنا كما عقولنا، بدّلت الى حدّ ما عاداتنا الاجتماعية وطقوسنا الحياتية، جعلتنا أكثر انعزالًا لا أكثر انخراطًا، وجمّدت فينا مشاعر كانت بالأمس رابطًا يعيدنا الى إنسانيتنا.
منذ متى يقاس حبّنا للآخرين بمدى تفاعلنا افتراضيًا معهم؟
من قال إن صلة الأرحام بالأقربين تُحكم بمدى تفاعلنا معهم فيسبوكيًا؟
متى كانت مواساة فاقدٍ بما فقد كافية من خلف الشاشات الصغيرة؟
منذ متى يقاس وفاء الأصدقاء وصدقهم بعدد المنشورات التي تجمع عباراتهم وصورهم؟
أين ذهبت إنسانيتنا؟ وكيف ضاعت منا تلك التفاصيل التي لا بديل لها ولا مكان للعالم الافتراضي بينها؟
كيف بإمكان هذا العالم أن يأتي بدفء العائلة وأمانها؟ كيف باستطاعته أن يستبدل جلسات الأصدقاء المفعمة بالابتسامة والحب؟ كيف بإمكانه أن يجسد المودة والرحمة؟ كيف يزرع الكلمة الطيبة ويرى في النفس أثرها؟ كيف تُطعم البطون الجائعة وتُستَرَد الحقوق المنهوبة؟
نحن نسلّم أن العالم الافتراضي بات جزءًا لا يتجزّأ من مكونات حياتنا اليومية، وهذا واقع لا هروب منه ولا إنكار له، لكن انسلاخنا عن واقعنا الإنساني واللجوء الى هذا العالم الافتراضي هو بحد ذاته ظاهرة مرضيّة كبرى، تطال النفس البشرية وتتحكّم بها، فوسائل التواصل الاجتماعي بمفهومها الواقعي المزيّف قد غيّرت مفهوم الإنسانية لدى الفرد، وأطاحت به بعيدًا عنها، لذا يبقى السؤال الأهم مطروحًا: ما نفع أن يكون الفرد متواصلًا اجتماعيًا ومنعزلًا إنسانيًا؟