عملت الصهيونية العالمية منذ عقود على التعبير عن مصالحها وأطماعها في منطقتنا بعبارات ومصطلحات فضفاضة ومفاهيم تحاكي في ظاهرها الفطرة الإنسانية وتخفي في تفاصيلها مضامين شيطانية.
آخر ما توصلت إليه من نظريات متلونة تمليها علينا الصهيونية العالمية هو مشروع السلام العالمي (أبراهام)، حيث بدأ يطفو على سطح الأروقة السياسية منذ الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي والبحريني الذي انعقد في حديقة البيت الأبيض برعاية ترامب.
لم يكن مشروع أبراهام حديث الولادة آنذاك، بل أبصر النور في اللا وعي الجمعي لدى شعوب المنطقة، وخاصة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وتمت حياكته بخيوط ناعمة تدغدغ العمق النفسي والاجتماعي والثقافي والديني ليكون تقبّله من قبل الشعوب اعتياديًا واستنسابيًا.
لماذا اختارت الصهيونية العالمية مشروع أبراهام تحديدًا؟
لأن إسرائيل أدركت بعد هزائمها المتوالية منذ عام 2006م في حرب تموز وفي كل معاركها في غزة أنها غير قادرة على تحقيق حلمها التوسعي الكبير -من النيل إلى الفرات- بالاحتلال العسكري المباشر، فكان الربيع العربي خيارها البديل الذي فشل على الأقل في إنهاء عزلتها السياسية، لأنه اصطدم بقدرة سورية على مواجهته والتغلب على ضغوطاته، وكانت نهاية الحرب في سورية لصالح الدولة والجيش السوري، وما كان من الرئيس السوري بشار الأسد إلا أن أعلن في خطاب القسم بعد نجاحه في الانتخابات الرئاسية التي أجريت مؤخرًا أنه ثابت على مواقفه في دعم القضة الفلسطينية ورفض الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني.
إن إسرائيل لم تستسلم أمام هذا الواقع والوقائع الأخرى التي هددت وجودها وغيرت موازين القوى لصالح محور المقاومة، فاستغلت تداعيات مشروعها المهترئ الذي سمّي بـ(الربيع العربي) لتبني عليه مشروعها الجديد (اتفاقيات أبراهام للسلام العالمي)، بعدما أغرقت دول المنطقة بالدمار والفتن ومخلفات الحروب من الفقر والعجز والحصار وتردي الأوضاع المعيشية والخدمية والفلتان الأمني وتفشي الجرائم والإبادات الجماعية والتطرف والإرهاب وغيرها، لتجر تلك الدول والشعوب المعذبة لاستجداء خلاصٍ أو رجاء حلٍ ينهي معاناتهم بأي ثمن فيأتي المارد الإسرائيلي ومن ورائه أتباعه من أنظمة وحكام بحلٍ سحري على هيئة مشروع للسلام لا يحمل في جعبته إلا ضمانات لمصالح إسرائيل وأمنها واستقرارها وبقائها وفرض هيمنتها ليس فقط سياسيًا واقتصاديًا، بل أيضًا ثقافيًا واجتماعيًا، بأن يقدمها لشعوب المنطقة نموذجًا في التفوق الحضاري والعلمي والتكنولوجي والتقني يخولها قيادته وتولي زمام أموره وفرض ثقافتها وهويتها وأسلوب حياتها عليه.
ما هو مشروع اتفاقات أبراهام للسلام العالمي؟
أبرز ما جاء في نص الاتفاق بين الكيان الإسرائيلي والإمارات والبحرين، والذي سمّي بهذا الاسم، ما يلي:
نشجع على بذل الجهود لتعزيز الحوار عبر الأديان والثقافات للنهوض بثقافة السلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاث والبشرية جمعاء.
نؤمن بأن أفضل طريقة لمواجهة التحديات هي من خلال التعاون والحوار، وأن تطوير العلاقات الودية بين الدول يعزز من مصالح السلام الدائم في الشرق الأوسط والعالم.
نسعى لإنهاء التطرف والصراع لتوفير مستقبل أفضل لجميع الأطفال.
نسعى لتحقيق رؤية للسلام والأمن والازدهار في الشرق الأوسط وفي العالم.
الأسئلة التي تطرح نفسها هنا:
أولًا: ما الذي يجعل هذا الاتفاق مقبولًا بالعقل والمنطق، وأطرافه أصحاب التاريخ الأسود بارتكاب المجازر والجرائم والحروب؟!
ثانيًا: هل تنتظر البشرية خلاصها من جلاديها أنفسهم، أولئك الذين تلطخت أيديهم بدماء كل من الشعب الفلسطيني والعراقي والسوري واللبناني واليمني والأفغاني؟!
وهل تنتظر البشرية أيضًا من الولايات المتحدة الأمريكية أن تجلب لأطفال العالم مستقبلًا مشرقًا، وهي التي أبادت جيلًا بكامله بقنبلتين ذريتين على هيروشيما ونكازاكي في اليابان؟!
ثالثًا: هل كان الصراع في المنطقة صراعًا دينيًّا بحتًا مجردًا من خلفياته السياسية وأطماعه الاقتصادية حتى يتم حلّه عن طريق حوار الأديان؟!
وهل الديانة اليهودية بصورتها اليوم، القائمة على التطرف وإقصاء الآخر والنظرة الدونية تجاه بقية الأعراق والديانات، واعتبار اليهودية قومية فضلًا عن كونها ديانة، واعتبار اليهود شعب الله المختار، وغيرها من التعاليم التلمودية العنصرية، لديها القابلية لإجراء أي حوار على أساس الاعتراف للآخرين بهويتهم وثقافتهم واستقلالهم وسيادتهم على أرضهم ومقدراتهم وكرامتهم الإنسانية؟!
دون أن ننسى أن التلمود الذي استندت إليه لإنتاج فكرة الديانة الإبراهيمية التي تجمع الديانات الثلاث هو نفسه التلمود الذي تستند إلى نصوصه المتوحشة في تبرير ممارساتها القسرية وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني.
رابعًا: لماذا لم ينص الاتفاق على منح الشعب الفلسطيني أي شيء من حقوقه أو التعهد بعدم ارتكاب المزيد من الجرائم بحقه وممارسة التهويد والاستيطان والتهجير كبادرة حسن نية على الأقل؟!
كيف مهدت الصهيونية العالمية للدين الجديد (الإبراهيمية)؟
بدأت الصهيونية العالمية بافتعال الأزمات من أجل خنق العالم العربي والإسلامي بالحصار والتجويع ليستغيث مطالبًا بأهم مقومات استمرار الحياة البشرية وهو (السلام) فتقدمه له كصدقة ملوثة بالمن والأذى مستغبيةً عقله وقلبه وفكره،
أولًا: عن طريق الغزو الثقافي عبر التكنولوجيا وبعض الجمعيات غير الحكومية التي تغلغلت داخل المجتمعات مستغلةً الحاجة الإنسانية والدعم النفسي وبعض مؤتمرات حوار الأديان.
ثانيًا: عن طريق تجسيم وتعظيم الحضارة الغربية أضعافًا مضاعفةً عن حجمها الحقيقي وتقديمها مجردةً عن استصحاب الظروف والأرضية الملائمة لتجسيدها بأقل أضرار جانبية ممكنة لكي تأخذ شكل مدينة فاضلة بمثالية زائفة تبني عُشَّ يوتوبيا لها داخل العقل العربي وتجره وراء الانسلاخ من هويته وانتمائه والتخلي عن مبادئه وسيادته واستقلاليته.
ثالثًا: خلق بعض برامج التنمية البشرية وتطوير الذات والتفكير الإيجابي التي تركز على المصالح الفردية، والتركيز أيضًا على الطقوس الدينية التي تهتم بالعبادة الفردية كالجزئيات الفقهية التفصيلية وتغييب قيم التماسك المجتمعي وتهميش مبادئ التضحية والإيثار وخدمة الناس والدفاع عن قضاياهم والانتصار لمظلوميتهم، كل ذلك من قبيل تهيئة الظروف وتوفير البيئة الخصبة لتنامي فكرة ما يسمى بـ”الديانة الإبراهيمية”.
إلى أي مدى نجح التمهيد الناعم للمشروع في تحقيق الثقل الاستراتيجي وصناعة الفارق؟
ربما أخطأت الصهيونية العالمية مجددًا في قراءة بُعد التركيبة المجتمعية الصلبة في منطقة الشرق الأوسط، وفي حين رأت أن الأرضية والبيئة أصبحت جاهزة لطرح المشروع علنًا تفاجأت بالرفض الشعبي له وعدم الانجرار وراء أهدافه، ليس فقط في دول المحور، فقد شهدنا رفضًا شعبيًا ملفتًا في الأردن وكذلك في المغرب، وهذا ينبئ باحتمال أن تكون الصهيونية العالمية قد تراجعت خطوة إلى الوراء أي عادت إلى مرحلة ممارسة الضغوطات وتضييق الخناق على شعوب منطقتنا لكي تستسلم وتقبل بالانقياد لها.
الخلاصة
إن الحوار بأصله مبدأ مطلوب، وحوار الأديان بحقيقتها فكرة إيجابية، ولكنها لا تأتي حلًا لصراع سياسي، لأن الحوار الفكري بشروطه يكون نتيجة تفاعل الإنسان الطبيعي مع بيئته، فهو فعل وتفاعل وليس ردة فعل. أما عن شروط هذا الحوار فهي:
1 – أن يوضح المفاهيم ويعرّفها.
2 – أن يزيل الشبهات والإشكالات ويعرّيها.
3 – أن يركز على المتقاطعات ويعزّزها.
4 – أن يرد المتشابهات إلى المحكمات.
5 – أن يكون قائمًا على أساس الاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق والواجبات بين الأطراف المتحاورة.
أما عن الحل الحقيقي لإنهاء الصراع الإقليمي والدولي فهو تغليب مقولات العدالة وتمكينها كمنظومة حاكمة وجعلها معيارًا قيميًا وطريقًا مستقيمًا ومنهجًا متبعًا وثقافةً سائدةً وميزانًا دقيقًا تردّ إليها المسارات وتبنى على أساسها حضارات الشعوب والأمم، وترسم على مبادئها سياسات الدول، وتحتكم لقوانينها الأنظمة، وتنبثق من نهجها الاستراتيجيات والنظريات والخطط والمشاريع والبرامج.
وعلى أساس هذا الحل يمكن تحقيق السلام، لأن العدالة أصله، والسلام ليس إلا تجلٍ لآثارها ونتيجة لمقدماتها، فلا يمكن نجاح أي عملية سلام من دون رد الحقوق ودفع المظالم.
فالحل الحقيقي من أجل أن تنعم شعوب العالم بالأمن والسلام والرخاء هو أن تُملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا.