مع انتشار وسائل التواصل وتحوّلها إلى منابر مفتوحة لعموم المستخدمين، بتنا نشهد نقاشات يومية حول الكثير من القضايا والأحداث والظواهر. فما إن يصدر تصريح من أحد السياسيين أو رأي من أحد الناشطين أو يحصل حدث ما في الشارع حتى ينقسم المستخدمون ما بين مؤيد ورافض، ويتحول الموضوع إلى “ترند” يتعالى الضجيج حوله والأخذ والرد، إلى أن يأتي “الترند” الآخر ليأخذ مكانه.
كثير من هذه النقاشات التي تدور بحسب الظاهر حول “فعل” أو “سلوك”، يكون محورها في الحقيقة هو القيمة الكامنة خلف الفعل، ويكون سبب انقسام الناس هو اختلافهم في تعريف القيم وضبط حدودها والإيمان بها، والاختلاف في تحديد سلّم القيم والأولويات التي يجب ترجيحها على غيرها.
مثلًا، عندما تقوم مجموعة من الناس بتنظيم فعالية ما في الشارع، نجد أن الانقسام سريعًا ما يحصل حول كون تصرفهم هذا مطابقًا لموازين المجتمع والبيئة المحيطة أو لا، وحول أصل وجوب احترام هذه الموازين وعدمه، وحول حدود الحرية الفردية وهل يمكن تقييدها بالقيم العامة للجماعة أم لا.
ما نريد الإشارة إليه هنا، هو أنه لا توجد “جماعة” في هذا العالم ليس لها هوية ثقافية خاصة بها، ولا تحمل قيمًا اجتماعية تُلزم أفرادها بها. الذي يميّز الجماعات عن بعضها بعضًا هو هذه القيم، والجماعة التي تتخلى عن قيمها الخاصة تذوب في غيرها من الجماعات وتضمحل، وتنتقل إلى اعتماد قيم أخرى بديلة لا إلى الفراغ القيمي.
القيم الاجتماعية هي التي تضبط سلوك الأفراد في الدائرة العامة التي تسمى “المجتمع”. ومن دون هذه القيم يتحول المجتمع إلى غابة غير منضبطة. خذ مثلًا قيم “احترام مقدسات الآخرين” و”عدم التعدي على الملكيات العامة والخاصة” و”النزاهة” و”الأمانة” و”الصدق” وغيرها، وتخيّل مجتمعًا لا يُلزم أفراده بهذه المبادئ ولا يذم من يتجاوزها. هل يمكن لأفراد هذا المجتمع أن يعيشوا مع بعضهم بعضًا؟
ثم إن المجتمعات تحدد قيمها الخاصة انطلاقًا من الرؤية الكونية العامة التي تحملها والتي تشكل العنصر الأساسي في ثقافتها، ولذا ترى تمايزًا بين المجتمعات المتدينة والمجتمعات المادية، وبين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات المسيحية مثلًا.
وهذه القيم تتشكل على مر السنين، وتتكرس إلى أن تصير عرفًا راسخًا حاكمًا على الجميع، ولا تستمد شرعيتها من الإيمان الفردي بها، بل لها طابع إلزامي حاكم على آراء الأفراد ورؤاهم الخاصة. فلا تجد مجتمعًا يطرح قيمه للاستفتاء، أو تُجرى فيه انتخابات دورية لمعرفة رأي أبنائه في أنه هل يجب تكريس “الأمانة” أم أن “الخيانة” صارت مقبولة، وهل تريدون في هذا العام أن نمدح “الاحتشام” أم “التهتّك”؟!
اليوم، مع انفتاح المجتمعات على بعضها بعضًا، من الطبيعي أن يحصل التأثّر والتأثير الثقافي فيما بينها، وأن يحصل انزياح تدريجي في كل عناصر المنظومة الثقافية الاجتماعية، ومن ضمنها القيم. لكن هذا لا يمكن أبدًا أن يلغي مكانة القيم الاجتماعية وأن يجعلها بمتناول كل فرد يريد إعادة تعريفها وترتيبها كما يريد، ولا يمكن للأفراد التحجج بـ”الحرية الفردية” للتعامل وكأن هذه القيم غير موجودة، إذ الحرية الفردية لا يمكن تطبيقها على إطلاقها في أي مكان وأي جماعة، وإلا فإنه يمكن تبرير كل شيء بها حتى قمع هذه الحرية.
الذين يدعون إلى التحرر من القيم الخاصة بجماعة معيّنة، هم يدعون في الحقيقة إلى استبدالها بالقيم الخاصة التي يؤمنون هم بها، وبالتالي هم يهربون من حاكمية قيم الجماعة على الفرد إلى حاكمية قيمهم الخاصة على الجماعة، لأنه في النهاية لا بد من قيمة تحكم وتكون هي الضابط والمعيار، وإلا فسد النظام الاجتماعي العام ولم يعد هناك ناظم لعلاقات الناس فيما بينهم.