البقاع، بعلبك، أو منطقة بعلبك الهرمل، أو ما يطلق عليها من التسميات التي عادةً ما تتردّد على آذاننا فتظهر أمام أعيننا مباشرةً صورة تلك المنطقة اللبنانية المهمّشة التي لا يراها معظم اللبنانيين سوى منطقة خارجة عن القانون، تعيش فيها مجموعة من المتمرّدين على الدولة من “الحشّاشين” أو حملة السلاح غير الشرعي. إنها نظرة موحّدة ومشتركة بين اللبنانيين نوعًا ما، تناقلوها قولًا أو فكرًا من جيلٍ لآخر مشوّهين بذلك، عن عمد أو غير عمد، وجه منطقة حضارية منذ الأزل، غنيّة بالعاصي والسهل، وأهلها “أهل الكرم” و”ذخيرة المقاومة”.
المحافظة
تمتد محافظة البقاع على مساحة واسعة من لبنان، إذ تحد قضائي مرجعيون وحاصبيا من الجهة الجنوبية، ومعظم أقضية جبل لبنان من الجهة الغربية، وكذلك أقضية بشري والضنية وعكار من الجهة الشمالية. تعتبر منطقة بعلبك والهرمل التي تقع في القسم الشمالي من البقاع المنطقة الأكثر فقرًا من ناحية، والأقل استقرارًا أمنيًا من ناحية أُخرى، إذ إنها منذ زمن طويل تُعتبر خارجة عن سيطرة ونطاق الدولة، وقد شهدت في مراحل سابقة من ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ما عُرف في وقته بـ “حرب الطفّار”، أي المواطنين الذين تلاحقهم السلطات بجرائم تتهمهم بارتكابها، دون أن تراجع الدولة سياستها التي أدت إلى إفقار المناطق البعيدة عن العاصمة، ومنها البقاع. وقد ظهر تقصير الدولة في البقاع بأوجهٍ عدّة:
الخدمات الصحيّة
تتميّز هذه المنطقة بشتاء قارس البرودة يمتد لحوالي 6 أو 7 أشهر في خلال السنة. ويضطر سكان هذه المنطقة إلى إشعال المدافئ الحطبية أو التي تعمل على المازوت لتدفئة أطفالهم وأنفسهم. وفي كلتا الحالتين، يحتاج الأمر إلى دفع مبالغ لا بأس بها. إن برميل المازوت أي الألف ليتر يبلغ سعره اليوم حوالي ثلاثة ملايين ليرة لبنانية، أي ما يعادل ضعف راتب الموظف أو العامل في تلك المنطقة، إن لم يكن أكثر في ظل الأزمة الحالية. وفي ظلّ غياب القدرة على تأمين ذلك، تعاظمت الأزمة حيث مُلئت المستشفيات في الشهر الماضي بالأطفال والشيوخ من شدّة البرد وانتشار الانفلونزا. كذلك حصل في خلال أزمة كورونا التي تعيد أمجادها اليوم. لكن في ظلّ كل هذا، هل تمتلك هذه المنطقة العدد الكافي من المستشفيات المجهّزة والكوادر الطبيّة المطلوبة؟ الجواب هو لا طبعًا.
ففي منطقة تبلغ مساحتها ما يزيد عن 3000 كلم2، يُعتبر عدد المستشفيات قليلًا جدَّا، وفي الوقت ذاته، لا تتوفر جميع المتطلبات اللوجستية والطبية وغيرها. ووفقًا لما ذكره الدكتور اسماعيل سكرية، رئيس الهيئة الوطنية الصحية، كما ورد في جريدة الأخبار، فإن «بعض المستشفيات في المنطقة ليست مستشفيات بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هي أقرب إلى مستوصفات طبية». وثمة ما يمكن إضافته هنا إلى لائحة الأزمات في المنطقة، وهو تحكّم «الوساطات بالدخول إلى المستشفى والحصول على سرير، فالمحظيّ هو من له ظهر»، على ما يقول بعض أطباء المنطقة، متطرقين أيضًا إلى تمييز يمارسه بعض أصحاب المستشفيات الخاصة بين المرضى لناحية الجهة الضامنة، «وبالطبع مرضى الوزارة في أدنى الترتيب، وهم الأفقر في المنطقة».
السلاح وقضايا المطلوبين
سطّر القضاء اللبناني أكثر من 35 ألف مذكرة توقيف بحق أشخاص من أبناء هذه المنطقة على خلفيات خطف، وسرقة، وقتل، واعتداء، وتجارة وترويج مخدرات. تُسطّر محاضر التوقيف بحق عدد كبير من هؤلاء ويُظلم الكثيرون سواء في حال وجود التهم أو عدمها، الأمر الذي يمنعهم من الخروج من منطقتهم أو ممارسة العمل في خارج نطاق المحافظة أو حتى “الضيعة” لخوفهم من الحواجز الرسمية. لذلك، ووفقًا لما يعبّر عنه بعضهم، لا يجدون وسيلة للحصول على قوت يومهم سوى “الأعمال الممنوعة” كالمتاجرة بالمخدرات أو زراعة الحشيش أو بيع السلاح اقتناعًا اعتبارًا منهم أن الدهر والزمن عليهم.
طبعًا، لسنا بوارد تبرير أيّ من هذه الأفعال، فالغاية لا تبرّر الوسيلة، لكن لماذا يغيب دور الدولة عن هذه المنطقة وأهلها بوتيرة أكبر من باقي المناطق؟ لماذا يظهر التقصير متعمّدًا؟ ولمصلحة من؟
الخدمات التربوية
ينطلق تلاميذ هذه المنطقة من ضيعة إلى أُخرى، طالبين العلم، الذي يلحقون به ولو في الصين، رغم بُعد المسافات ومشقّة الطرقات ورداءة الخدمات. ففي محافظة بعلبك الهرمل على سبيل المثال، لا يتوافر سوى فرع واحد لجامعة الوطن الحبيب، وعلى سبيل المثال أيضًا، على ابن الهرمل وبعلبك ومناطق الجوار أن ينطلق يوميًا صباحًا من بلدته نحو مدينة زحلة التي تبعد حوالي الساعتين، يتكبّد الطالب خلالهما عناء الطرقات بمسافاتها ومصاريفها، في الأيام العادية، أما في نهارات الشتاء المثلجة، فتُغطّى الطرقات بالثلوج، الأمر الذي يمنع هؤلاء من التوجّه إلى جامعتهم لأيام أو أسابيع، وحتّى أحيانًا لشهور. ويقع الطالب حينها بين أمرين: إما تكبّد هذا العناء في سبيل العلم الذي يطلبه معظم أبناء المنطقة، أو اللجوء إلى العاصمة بيروت واستئجار “الفواييه” للحصول على بعض الأمن والأمان، مع ما في ذلك من نفقات غير قليلة أيضًا.
تقاعس الدولة عن أداء واجباتها
في بعلبك، يقع نهر العاصي الذي يبلغ طوله ٥٧١ كلم منها ٤٦ في لبنان، ممتدًّا نحو سوريا. لكن أهالي المنطقة يشترون الماء بقوت يومهم للجلي والاستحمام وتنظيف البيت وغسل الملابس. تستطيع الدولة اللبنانية فقط عبر نهر العاصي والليطاني، أن تبني معامل توليد الكهرباء لتنقذ ليس البقاع وحده بل لبنان أجمع، لكن الدولة تعمل على أن تستحصل على الكهرباء من سوريا والأردن ومصر، بعد “شحادة” الرضا الأميركي، فأين المنطق؟
في هذه المنطقة سهل البقاع ومساحته ٤٢٨ ألف هكتار أي ما يعادل ٤٢٪ من مساحة لبنان الإجمالية، السهل الخصب الأخضر.، لكن ساكني المنطقة يستوردون بعض الخضار والفاكهة من بعض الدول العربية، فأين المنطق أيضًا؟
بالإضافة إلى ذلك، بعلبك، أو مدينة الشمس كما نعرفها، هي إحدى الوجهات السياحية التي يقصدها السياح بعدد كبير لتاريخها وحضارتها وآثارها الرومانية المعروفة. هذا يجب أن يدعو الدولة اللبنانية مثلًا إلى إقامة المهرجانات أو الاحتفالات الدورية، فتتحرك العجلة الاقتصادية من خلال السياحة من جهة، ويحصل أهالي المنطقة على ما يساعدهم اقتصاديًّا من الناحية الأُخرى. لكن الدولة، ورغم معرفتها بهذا، اختارت عدم الاهتمام بمنطقة بعلبك أو حتى دعمها بالقليل من أجل تحسينها أو جذب السياح بوفود أكبر.
ألا يحقّ لهذه المنطقة أن تقدر يومًا ما على الحصول على جزء ضئيل من حقوقها كي تنعم بحياة كريمة؟ ففي حين تعاني هذه المنطقة وأهلها بشكل يومي من دون انقطاع أو ملل، لا نرى نواب المنطقة أو وزراءها ومسؤوليها إلّا في الفترة التي تسبق الانتخابات النيابية أو البلدية أو خلالها لعرض مشاريعهم الانتخابية التي تُعرض خدماتها لفترة محدودة، تمامًا كالبضائع ذات “Limited Edition”.
ورغم وجود بعض السياسيين الذين يحاولون تقديم ما يقدرون عليه للمنطقة وأهلها، إلا أن هؤلاء نسبتهم قليل ولا يتمكنون من تحقيق أي شيء من دون قرارات سياسية وموافقات وتواقيع “من فوق”.
نعم، إنه بقاع العلم والخيرات، خزّان المقاومة والشرفاء الذين ما بخلوا يومًا بأرواحهم ودمائهم في مواجهة الإسرائيلي والتكفيري، في كافة الأراضي اللبنانية. إنهم أبناء الهمم الذين يجتازون الطرقات والقرى، لحمل شهادة تعينهم على تأمين قوتهم اليومي ومساعدة أهالي منطقتهم. منهم من في الخارج ومنهم من في الداخل، يرفعون اسم لبنان عاليًا، ولكن خفاءً، لأن دولتهم اختارت أن تشهّر بهم جهارًا كحمَلة سلاح وخارجين عن القانون و”حشاشين”. إنهم تلاميذ الموسوي ولقّيس، تلاميذ مدرسة الصبر والكدّ والكرم، ولو لم يكن بحوزتهم سوى قوت يومهم.
على أمل أن تنصف الدولة مواطنيها عمومًا، وأهل هذه المنطقة خصوصًا، يومًا ما.