يتباهى كل حزب في لبنان بحبه للوطن، وكل متحزّب يعتبر حزبه هو الوحيد الذي يهتمّ بلبنان ويصدق في شعوره ونظرته للبلد ومصلحة البلد، ويتّهم كل لبناني يخالف رأيه رأي حزبه بنقص الوطنية والارتهان للخارج والعمالة لتخريب الوطن.
آلاف وآلاف الأغاني الوطنية أنشدنا في مائة سنة من تأسيس كيان لبنان. عشرات الحروب خضنا -أغلبها الساحق بين بعضنا بعضًا- بحجة الحفاظ على لبنان. آلاف الشهداء سقطوا في سبيل بضعة كيلومترات كانت حصتنا من سايكس-بيكو. لم يكن هناك حزب لم يعمل مع دولة أخرى بحجة الحفاظ على لبنان، فقتلنا وقُتلنا، ضحِكنا وبكينا، أنشدْنا وأُنشد فوق جثثنا نشيدُ بلادنا، كلّنا للوطن، للعُلى للعلم.
انتهت الحرب الأهلية، حلٌّ للميليشيات، إعادةُ إعمار، تحرير، استقرار نسبي، ثمّ أزمة هويّات مرّةً أخرى ما زالت مستمرّةً حتى اليوم. انتشر الفقر أكثر، سادت البطالة أكثر، عظُمت الحاجة والعوَز، أعداد مهاجرين تزيد، وما زلنا ننتج أغانيَ وطنية، وبات اللبنانيون يجاهرون بكرههم للبنان ورغبتهم الخروج منه، فهل فعلًا يكره لبنانَ اللبنانيون؟ أم يكره لبنانُ اللبنانيين؟
الوطنية في الصغر
إنّه أسبوع ذكرى استقلال لبنان منتصف شهر تشرين الثاني، ألبسَتك والدتُك زيَّ الجيش اللبناني وأوصلتك إلى المدرسة حيث كانت باستقبالك معلّمة الجغرافيا التي ناولتك علميْن، علم لبنان وعلم الجيش اللبناني، توجّهتَ نحو أصدقائك تتبارزون من يبدو الأوسمَ بزيّه العسكري. رنّ الجرس، وقفتَ في الصف، أنشدتَ النشيد الوطني اللبناني وشاهدت رفع العلم على سارية ملعب المدرسة، أدّيتَ التحيّة، ثمّ جاء باص المدرسة الذي سيقلّك إلى ثكنة الجيش القريبة حيث ستشاهد آليات الجيش وتتصوّر قرب المروحية العسكرية وتستمع لخطاب عسكريٍّ عن حبّ الوطن وغيره: حبّ الوطنِ لا يعني أن ترغبَ حياةً رغيدةً فيه، بل هو رغبةُ الموتِ في سبيله. تعود إلى الصفّ حيث ستستمع إلى نبذة عن تاريخ لبنان -حتى الاستقلال- ثمّ تعود إلى المنزل وترمي العلم في الخزانة وتفرح بعطلةٍ تمتدّ من الجمعة حتى الثلاثاء بسبب عيد الاستقلال.
الوطنية في تعريفنا
ذكرنا سابقًا أنّنا شعبٌ يتبارز في حبّ الوطن، فيخيّل للشخص أنّ حبّ الوطن هو شبيه بحبّ الأفلام الرومانسية، نكتب له أشعارًا، نغنّي له الأغاني، نتصوّر مع أجمل أجزائه، نشجّعه في شتّى المجالات. ولكن لمَ لا يكون حبًّا ناضجًا أكثر؟
إنِ ارتبطتَ بفتاة، سترغب برؤيتها يوميًا. وقد تكون من الرومانسيين فتكتب لها قصيدة أو تهديها أغنية أو وردة يوميًا. تخطبان فتتزوجان فتنجبان أطفالًا فتعتادان على بعضيكما بعضًا. لن تجلب لها وردةً يوميًا حينها، لن تكتب لها قصيدة أو تهديها أغنية، لن تعانقها كلّما رأيتها، ولكن فلتمرض أنتَ أسبوعًا وستجدها جالسةً قربَك وتخدمك، وأحنَّ عليك من أيّ وقت مضى، فهي الآن تحبّك أكثر، ولكن طريقة التعبير عن الحب قد تغيّرت وأخذت شكلًا ناضجًا عوضَ طريقة التعبير المراهقيّة التي كانت تعبّر فيها.
نحن مراهقون في حبّ لبنان، فعرّفنا الحبّ بكميّة الأغاني التي نحفظها أو بصورة علم نضعها على حسابنا على فايسبوك، ولم يكترث أغلبنا لخدمة بلده.
ماذا تعني خدمة الوطن؟
ليس المقصود بخدمة الوطن أن يتجنّد جميع السكان في الجيش، ولا أن يحمل كلّ منّا مكنسة وينظّف أرصفة الوطن وشواطئه.
بُعيد انفجار مرفأ بيروت، سارع الشباب اللبناني من جميع الطوائف والمناطق لتنظيف الشوارع والمساعدة في لمّ الركام، وسارعت الفرق الكشفيّة والإسعافية للمساعدةِ أيضًا. هذا عملٌ جيّدٌ طبعًا وفيه إظهارُ تكاتفٍ ولحمةٍ يظهرها اللبنانيون وقت الكوارث المشتركة وتعبّر عن مدى حبّهم للوطن.
منذُ بدء الأزمة في لبنان، ملّ أغلب اللبنانيين من انتظار الفرج وملّوا من لبنان بمشاكله ورسالتِه واختاروا الاعتكاف عن سماع أي أخبار والعمل حصرًا على الهجرة، فجاءت البارحة افتتاحية كأس العرب في الدوحة وقدّمت للعرب أغنيةً تجمع جميع أناشيد البلاد العربية، وما إن وُضع علم لبنان منتصف الملعب وسمعوا عبارة “كلّنا للوطن” حتى خشعوا، وقف شعرُ أبدانهم، اغرورقت عيونهم بالدموع. هكذا وبلحظة، حقد عقودٍ من الزمن استطاعت بضع ثوانٍ رأوا فيها علمَ بلادهم وسمعوا فيها نشيده أن تقصيَه وتذكّرهم أنهم لا يكرهونه البتّة، بل هي علاقةُ حبٍّ من طرف واحد ملّوا منها وتوهّموا أنهم كانوا قد تخطّوها.
ربما نحن نفتقر الى مفهوم المواطنة، نبحث عن وطنيّتنا في نشيد يعزف في الخارج، في فوزٍ بمباراة أو في أي إنجاز صغير.
خيباتنا كثيرة، كلما خطَونا تجاهه بادلنا بالجلدات، لا نظام يُحترم ولا قانون يُصان.
قد نكون نحن من خذل وطننا من خلال إيماننا الراسخ بقول ” كما نكون يولّى علينا”. ليس علينا الاكتفاء بالنقد والتذمّر بقدر ما علينا محاربة الفساد بمعزل عن اي اعتبارٍ آخر. سلطة الأحزاب غالبًا مستمدّة من غياب الدولة القادرة والعادلة، التي تستطيع تأمينَ العيش الكريم لأبنائها بكامل حقوقهم من علمٍ وطبابة وفرص عمل وهو الحجر الأساس للخروج من الانتماء للمجموعة إلى الانتماء للوطن.
خدمةُ الوطن الحقيقيّة ينبغي أن تكون علاقةً متبادلة على المواطن المبادرةُ فيها، وليس من خدمةٍ أنفعَ وأخلصَ من إقصاءِ أعداءِ الوطنِ منه. لبنان ليس إنسانًا تخدمه فيبادلك الخدمة بغيرها، بل هو أرضٌ على المواطن أن يزرع زرعًا طيِّبًا فيها فيحصد بدوره الطيّبات. ولكن ما الفائدة من حرثِ أرضٍ قاحلة؟ الاهتمام بالجذور هو الأولويّة، الدولة هي رؤساءُ أحزابٍ اتفقوا واختلفوا وبكلا الحالتين لم ينفعوا المواطن. هي دولة عميقة كانت مرآةً لحكّام فاسدين مجرمين فاشلين، فكان حصادُ اللبنانيين كزرعِهم، ومع ذلك اختاروا على مدار السنوات إعادة المحاولة عوضًا عن تغيير البذرة، فتتالى الشعور بالإحباط واليأس حتى استشرى في أنفس المواطنين وأذعنوا أن ليس من بديل وأنّ “لبنان بيبقى طول عمره هيك”.
خدمةُ الوطن تعني الخروج من التبعية العمياء والغرائز الطائفية العنصرية الطبقية المناطقية، تعني السعيَ لقتل الناطور بعد اكتشاف أن لن يُؤكل عنبٌ بوجوده، تعني فعل أقلِّ الإيمان في حالنا وخلع يدِ الطاعة من مجرمين فاسدين فاشلين لم يحبّوا لبنانَ يومًا، وكانوا هم من يخدمهم لبنان عوضًا عن خدمتهم له، تعني اختيار من يريد خدمة الوطنِ ودعمه للوصول لغدٍ أفضل، وفقط حينها سنكون أوفينا لبنان حقّه وخدمناه، وحينها فقط نستطيع مطالبته بخدمتنا.
لبنان يطلب مستقبلًا وحكّامًا أفضل، يطلب عدالةً اجتماعيّة ومساواة، فعلى من يحبُّ لبنان السعيُ لذلك، فإنّ المحبَّ لمن يحبُّ.. مطيعُ.