“تغدّى عند الدرزي ونام عند المسيحي”. قد يبدو شعارًا لمطعم يملكه درزي أو شعارًا لأحد الفنادق التي يملكها مسيحي، ولكنه في المضمون معناه: الدروز أكلهم لذيذ، ولكنهم غدّارون، فحذارِ أن تؤمن نفسك عندهم.
هذا المثل من أشهر الأمثال الشعبية اللبنانية، وانتشر بصيغة أخرى عند المسيحيين فصار “تغدّى عند الدرزي ونام عند المسلم”. إذًا، في الأمثال اللبنانية كان الدرزيّ يلعب دور الغدّار الذي لا أمان له.
“ماذا تفعل المسيحية عندما تستيقظ من نومها؟ ترتدي ملابسها وتذهب إلى منزلها”، للإيحاء بأنّ الفتاة المسيحية هي فتاة رخيصة والشاب المسيحي هو شخص لا شرف له ولا نخوة، وكانت هذه اللغة في التخاطب سائدة قبل الحرب اللبنانية، ففي الحرب اللبنانية وبعد المجازر والقتل وسفك الدماء تبيّن للعديدين مِمّن كانوا يُصدّقون هذه العبارات أن ليس لها أيّ أساس من الصحّة وكانت تستخدم للتفرقة وخطاب الكراهية.
اليساريّ كذلك اشتهر بأنه شخصٌ لا يستحمّ ويقضي نهاره بشرب الكحول لأنه كسول لا يحب العمل والتعب، فكانت نكتة “لو بتبيع الزيت اللي بشعر اليساريّة ما بتحتاج تطلّع نفط”، أيضًا لترسيخ هذه الصورة النمطية في أذهان الناس.
ما هي الصورة النمطية؟
الصورة النمطية هي الفكرة المترسخة عند العديد من الناس حول نوع من الأشياء أو مجموعة من البشر، فتُبنى أحكام مسبقة عن الفرد لمجرّد انتمائه إلى مجموعةٍ أو مكان ما.
إن قال لك أحدهم: في غرينلاند الناس يضعون رؤوس السمك في أيديهم قد لا تصدق فورًا، ولكن إن سمعتها من عدّة أشخاص وفي عدّة مناسبات ستقتنع. هذا هو التنميط، وهو أمرٌ قد لا يكون له أي أساس من الصحة، وقد يكون صحيحًا، ولكن بالتأكيد ليس بالحدّ الذي يتخيّله معظم الناس.
التنميط في لبنان
في بلدٍ مقسّم طائفيًا ومناطقيًا مؤلّف من شبه قبائل تعتبر كل واحدة منها أنها ليس لديها أي ارتباط مع القبائل الأخرى، وشعوب لديها عادات وتقاليد وأعراف مختلفة، ليس مستغربًا أن تكون للتنميط فيه أرضٌ خصبة.
كان للشخصيات التنميطية في المسرح والتلفزيون والأفلام اللبنانية دور كبير في إنجاح أي عمل مهما بلغت سخافته، فصار البيروتي بخيلًا، والشيعي أزعرَ، والطرابلسي إرهابيًّا، والمسيحي “نعنوعًا”، والدرزي لا يؤتمن، وغيرها من الصفات التي أدّت لوصم أي مواطن في لبنان بواحدةٍ منها.
الشخصيات النمطية أكثر من أن تحصى في مقال واحد. سنذكر هنا بعض الشخصيات المشهورة فقط.
بيار شماسيان – أم جورجيت
بيار شماسيان ممثل ومسرحي لبناني، اشتهر بتجسيد شخصية أم جورجيت، وهي امرأة كبيرة في السنّ، من سكان منطقة الأشرفية في بيروت، متطفّلة وسريعة الانفعال وتتكلّم اللكنة اللبنانية المكسورة مع عبارات فرنسية بين الكلمات. وهي صورة نمطية أيضًا عن “طانتات الأشرفية” اللواتي يستطيع أي شخص من سكان الأشرفية أن يتذكر عمّته أو جارته أو جدّته أو خالته إن رأى إحداهن، فيشعر بالقرب من هذه الشخصية وكأنّها تخصّه.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التنميط في أغلب الأحيان لا يأتي من فراغ. لم تكن لتنجح شخصية أم جورجيت لو كانت شخصية من مخيّلة بيار لا أكثر، إذ إنها بذلك لن تبدو منطقيّة أو قريبة من المشاهدين.
وفي المقلب الآخر، على الممثل الكوميدي أيضًا المبالغة بالانفعال والكلمات وردود الفعل لإضفاء جوّ من الكوميديا على الشخصية.
ميراي بانوسيان – أم طعّان
اشتهرت الممثلة المسرحية ميراي بانوسيان بتجسيدها لشخصيّة “أم طعّان” المرأة الجنوبية على خشبة المسرح في مسرحيات عديدة مثل “فوق الدكّة” و”فلت الملقّ” وغيرهما. نالت هذه الشخصية استحسان الجمهور لا سيّما الجنوبي الذي وجدها تمثّل طيبة وعفوية أهل الجنوب. استمرّ عرض الشخصية على التلفزيون في بعض البرامج الكوميدية بعد ذلك.
أحمد خليفة – أبو العبد البيروتي
شخصية “أبو العبد” هي شخصية فولكلورية تناقلتها الأجيال في قصصها عن الرجل “القبضاي” الذي يقضي نهاره في المقاهي يشرب النرجيلة ويلبس القمباز والطربوش ويحمل عصا الخيزران. انتقلت هذه الشخصية من القصص المحكيّة إلى المسرحيات والتلفزيون. وكان مِن أشهر من جسّد هذه الشخصية الممثل أحمد خليفة الذي قدّم العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية واشتهر بأداء دور الحكواتي، وكانت له مشاركة في بعض الأفلام والمسلسلات.
وهنا لا بدّ من ذكر شخصية أخرى شبيهة بأبي العبد، وهي شخصية أبو رياض الريّس التي قدّمها الممثل عادل كرم ولاقت شهرة واسعة، فاستمرّت سلسلة “يوميات أبو رياض” لعدة مواسم وتمّ إنتاجُ فيلم سينمائيّ لها (فشل ولكن ليس هذا هو المغزى).
أبو رياض هو عجوز بيروتي يقضي نهاره بالتطفّل على عباس شاهين والكذب عليه بقصص هوليوودية ينسبها لنفسه، ويعاني من ولده العاق الذي لا يحترمه ويضيّع ماله على المراهنة.
وعلى النسق نفسه ولكن بشخصية مؤنثة كانت شخصية “أم خالد” التي جسدتها الممثلة جوانا كركي. أم خالد هي حاجّة بيروتية تعشق تيار المستقبل والرئيس السابق سعد الحريري وتستطيع تحويل أي موضوع لموضوع يخصّ إمّا الحريري فتمدحه وإمّا أعداء الحريري السياسيين فتذمّهم. اشتهرت جوانّا بهذه الشخصية حتى أنّه تمّ استخدامها كجزء من حملة تيار المستقبل الانتخابية عام 2016.
شخصيتا أبو العبد وأبو رياض وغيرهما هي شخصيات باتت شبه منقرضة اليوم في بيروت، وهي كما شخصية أم جورجيت مقتصرة على بعض كبار السنّ فقط.
وسام سعد – أبو طلال الصيداوي
لعب الممثل وسام سعد شخصية أبو طلال الصيداوي مع انطلاقة برنامج شي إن إن عام 2010، فجسّد شخصية محلّل سياسي مدّعٍ يكذب في كل أخباره وينسب لنفسه أخبارًا ومعلومات لا أساس لها من الصحّة وتخوّف دائمًا من حزب الله أو الشيعة الذين “رح ياكلونا”، فيبدو في قصصه أنه لديه كل الخفايا والمعلومات السرية في العالم ويأبى إلا الإفصاح عنها أمام الرأي العام. وقد استطاع وسام سعد إثارة غضب كثيرين رأوا في شخصيته هذه استهزاءً بهم، وكانت ذروة التصعيد حين قام بإطلاق أغنية ساخرة بعنوان “صيدا ستايل”، إذ رأى الكثرون أن فيها تهكّمًا بحق صيدا وأهلها.
عباس جعفر – شخصية البعلبكي
جسّد الممثل عباس جعفر في برنامج شي إن إن وبرنامج بيت الكل شخصية ابن العشيرة البعلبكي الذي يستقوي بأولاد عشيرته وسلاحه ويحمل شعار “شرعوها”، للإشارة إلى رغبته تشريع قانون زراعة نبتة الحشيش في لبنان. اشتهر عبّاس بلكنته البعلبكية، وكان يمثّل بعفوية مع التضخيم والمبالغة من أجل إضفاء طابع كوميديّ.
فؤاد يمّين – فوفي
أيضًا، وفي برنامج شي إن إن، جسّد الممثل والمغني ومقدم البرامج فؤاد يمّين شخصية شاب مسيحي يطلق عليه اسم “فوفي”، وكانت الصورة النمطية للشاب المسيحي الذي يهوى الغناء ولديه هواجس ومخاوف من أن يتمّ إلغاؤه وتهميشه في لبنان من قِبل المسلمين. وتجلّى هذا في فقرات البرنامج حيث كان يتناوب أبو طلال وعباس جعفر تارّةً على الاستهزاء به وتارّة على ضربه والاستقواء عليه.
شخصيّات أخرى مرّت في برنامج شي إن إن مثل شخصية “سُنّي مان” التي جسّدها الممثل عبد الرحيم العوجي، فكانت شخصيةً مُحبطة تخاف على خسارة دورها في المجتمع كأكثريّة، وشخصية “بيضة القبّان” الدرزية التي جسّدها الممثل جنيد زين الدين الذي كان يسارع للإصلاح بين الشخصيات السنيّة والشيعية لأنه يخاف من أي اقتتال قد يؤدّي لأي أذى على سكان الجبل من الدروز. وشخصيّة البيروتي التي جسّدها لاحقًا الممثل زياد عيتاني في النسخة الأخرى من البرنامج الذي استؤنف على قناة إل بي سي والذي حلّ مكان عبد الرحيم العوجي، ولكن هذه المرّة بنسخة المواطن الذي يريد علاقة جيّدة مع شركائه الشيعة، ولكنه لا ينسى ولا يكفّ عن ذكر أحداث 7 أيار وكأنه يريد الانتقام منهم متى استطاع وتمكّن من القيام بذلك.
ولا بدّ هنا من الكلام عن سبب تقديم هذه الشخصيات في برنامج شي إن إن. هذا البرنامج كان وقوده الكوميديا السوداء، فهو برنامج ساخر، على نسق نشرات الأخبار اللبنانية، وتتخلله لطشات سياسية تهكمية. الهدف من البرنامج كما كان يردّد المعدّ سلام زعتري هو تجهيز الرأي العام للانتخابات النيابية، وبعد تمديد المجلس النيابي لنفسه مرتين ارتأى معدو البرنامج تمديده أيضًا للفترة نفسها.
اعتمد هذا البرنامج على الصور النمطية في كل شخصيات البرنامج، لتمثيل مختلف الشرائح، فلا يقعوا في فخّ الاستهداف لمجموعة واحدة، وأيضًا لتبيان قبح هذا الفعل. فإن كنت من سكان بعلبك وشاهدت شخصية عباس جعفر ستشعر أنّ فيه مبالغة ولا يمثّل كل أهل بعلبك، حينها ستقول: إذًا أولاد صيدا ليسوا كلهم مثل أبو طلال، وأبناء بيروت ليسوا كلهم مثل شخصية زياد عيتاني، والدروز ليسوا كلهم مثل شخصية جنيد، والمسيحيون ليسوا جميعًا مثل شخصية “فوفي”.
في تنميط من نوعٍ آخر، جسّد الممثلان عادل كرم ونعيم حلاوي شخصيتي “الرفيق ضومط”، وهو من قدامى القوات اللبنانية، و”آلان”، وهو أحد جيرانه المؤيّدين للتيار الوطني الحر. ترتكز شخصية ضومط على شخص ما زال عالقًا بذكريات الجبهة اللبنانية أيام الحرب الأهلية، وما زال يستذكرها ويستذكر المحاور والقنص وأغاني بشير الجميّل وخطاباته، ويتنمّر يوميًا على جاره “آلان” العونيّ ويستضعفه ويبدي كلّ الرغبة في التخلّص منه من المبنى الذي يقطنانه سويًّا.
وفي شخصية أخرى شبيهة، جسّد مقدّم البرامج هشام حداد شخصية “زوزو أبّا” في برنامج أوفريرا على قناة أو تي في، وهي شخصية أحد جمهور حزب القوات اللبنانية السوقي والذي باعتراف هشام حداد كان الهدف منه تنميط مؤيدي القوات لأجل مآرب انتخابية تتعلّق بالزعامة المسيحية عند التيار الوطني الحر. (لم نستطع إيجاد أي رابط لحلقة من البرنامج إذ تمّت إزالتها على الأرجح بُعيد اتفاق معراب “أوعى خيّك”).
حسين قاووق – علي العلي علويّة
آخر الممثلين كان الممثل المسرحي حسين القاووق الذي اشتهر بأدائه دور الشاب الفقير البسيط الشيعي ابن الضاحية الجنوبية، والذي لديه هواجس دائمة من أي تحركٍ احتجاجي لأنه يخشى من ردة فعل حزب الله وحركة أمل. جسّد حسين بهذه الشخصية الجدليّة شخصيةً شاهدها العديد من اللبنانيين وتكلّموا عنها لا سيّما بعيد أحداث ثورة 17 تشرين عام 2019 ورفع شعار “شيعة شيعة شيعة”، فكانت هذه الشخصية تحاكي الشاب المسحوق اجتماعيًا الساعي وراء لقمة العيش بأي وسيلة حتى ولو طُلب منه التخريب أو ضرب الناس أو بيع المحروقات في السوق السوداء.
وهنا لا بدّ من فلترةِ الآراء. بعض من يشاهد أعمال حسين يرى أنّه يريد أن يتعرّف اللبنانيون على هؤلاء الأشخاص الذين هم أقرباؤه وجيرانه وأهله وأصدقاؤه، وفي الوقت عينه يريد انتقاد بعض التصرفات التي يرى خطأها. وهناك من رأى في أعمال حسين فرصةً للتهكّم أكثر على أولاد هذه البيئة لأسباب طائفيةٍ سياسية ومآرب شخصية.
هنا كانت المشكلة. لا يعقل أن يكون حسين قد أراد أن يقول للناس هذا أنا وهؤلاء أصدقائي وأهلي، اكرهونا وانعتونا بأقبح الصفات وتصرّفوا معنا على أنّنا لا نشبهكم بشيء. المقاربة الصحيحة لمثل هذه الأفعال هي تحكيم العقل. من البشع التصويب نحو هويّة مجتمع. التصرفات المتكررة لنزع صفة “لبناني” عن أي شخص ينتمي للطائفة الشيعية هو أمرٌ قبيح وسبق أن عانت منه شرائح أخرى قبل الحرب الأهلية، ومرّة أخرى أثناء الحرب السورية. مرّ وقتٌ كان هناك استهداف فيه لأهل طرابلس وعكار وصيدا وغيرها لتصوير المناطق التي يرتكز فيها مواطنون من الطائفة السنيّة على أنها بيئة حاضنة للإرهاب، فصارت الوسائل الإعلامية منبرًا مفتوحًا لمشايخ التطرّف وخطباء الفتنة، وصار المراسلون يرافقونهم في كلّ محطاتهم وخطبهم.
مثل هذه الأفعال تولّد شعورًا أشبه بالبارانويا لدى العديد من المواطنين، يشعرون وكأنهم في امتحانٍ يوميّ لإثبات هويّتهم وانتمائهم. قبل أسبوعين، استقبل المنتخب اللبناني المنتخب الإيراني في مباراة كرة قدم في صيدا، فعمد العديد من المواطنين لوضع شعارات داعمة لمنتخب لبنان على صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي حتى ولو كانوا من الذين لم يشاهدوا مباراة كرة قدم واحدة في عمرهم، ذلك لأنهم يخشون في حال لم يفعلوا ذلك أن يتمّ اتّهامهم بعدم الوطنية والانحياز للمنتخب الإيراني.
“إذا استطعت الضحك على نفسك فهذا شيء جيّد، ولكن إن سمحت للباقين بالضحك معك فهذا شيء عظيم” – مارتين نيموليي.
درجت في العقد الأخير الحساسية المفرطة عالميًا، وهذا مُشاهد في الأفلام والمسلسلات العالمية التي باتت تتجنّب التطرّق إلى الأمور التي تؤدي إلى حساسية معيّنة، فعمد أغلب العاملين بالكوميديا نتيجةً لذلك إلى الاستهزاء بأنفسهم لإضحاك الناس كي لا تتمّ مهاجمتهم متى تكلّموا عن أي شخص أو جماعة أو مكان.
في لبنان اعتمدنا هذا الأسلوب نوعًا ما، فأغلب من جسّد شخصيات بصور نمطيّة هم أولاد البيئات التي مثّلوها. ولكن في ظلّ بلدٍ ما زال للخطاب الطائفي تأثير فيه -وإن قلّ- يصعب أن لا يؤدّي هذا الأمر لبعض المشاكل والانتقادات، وخاصّة إذا كانت هناك فئة تشعر بتهديد وهجومٍ عليها وتآمر من قِبل الجميع ضدّها. وفي بلد مثل لبنان هو شعورٌ يخفتُ أحيانًا ويشتدّ أحيانًا أخرى عند أيّ شريحة. فقط عندما نصل -إن بقي أحد- لوقت يقتنع فيه الجميع أنّنا كلنا أولاد هذه الأرض، وهي لنا جميعًا ولا حلّ لنا سوى بالتعايش ونبذ شتّى أنواع التفرقة والتشكيك بالهويّات، ستصبح مثل هذه الشخصيات وسيلة ليضحك الجميع معًا -مع أنّ أغلبها ليس مضحكًا- وليست وسيلة يستخدمها البعض لكي يزيد من الهجوم على طرف آخر، فيعزّز بذلك الشرخ بدلًا من تعزيز الشراكة.