اليمن بين مقالين.. وكل العواصف

لم يكن لي من عذر للتأخر في دعم قضية اليمن المظلوم بما يليق بها، سوى الحيرة عند الإقبال على الكتابة، وكأن كل الافكار تتداخل، ثم تتشتت في بحر متلاطم من المعطيات التي أعرفها جيدًا عن هذا الشعب، من تاريخه الحضاري القديم والمتجذر في القدَم، الى حاضره حيث خبرت بعض إضاءاته ونورانياته المتلألئة رغم كل محاولات آل سعود لطمسها وتهشيم ملامحها. وليست هذه الحرب الحالية إلا امتدادًا لنهج دأبت عليه طغمة فاسدة، ظالمة، متآمرة، أضاعت فلسطين، وها هي الآن تسعى لسحق اليمن، بعد أن مرت أياديها الملونة بلون الحقد، على العراق وسوريا، ونيجيريا، ولبنان وكل شعب يقول لا لامبراطورية العم سام، ويسعى لامتلاك ثرواته المنهوبة من الشركة-قراطية الأميركية.

ما إن مضى على الحرب أسبوع أو اكثر بقليل، حتى كتبت مقالًا عنونته كما يلي:
“من يُخرج السعودية من عنق الزجاجة ..”، حينها عارضني بعض الأصدقاء قبل الخصوم، مصرِّحين على أنني ربما استعجلت أو تهورت في إطلاق هكذا موقف، وأن اليمنيين في أزمة وجودية كبيرة، وأن فرصهم ضعيفة في قبالة تحالف أميركي إماراتي تتقدمه السعودية في عمليات الهجوم والقتل والسحل، مستخدمةً كل ما يمكن تصوره ولا يمكن تصوره من أسلحة اختُبرت سابقًا، أو يقومون باختبارها حاليًا في هذه الحرب. ولكن ما النتيجة بعد أكثر من سبع سنوات؟ انتصار الحفاة الأعزاء، وانكسار هيبة تحالف كبير الحجم، تافه القدر، تعاني دولتاه العربيتان “مع وقف التنفيذ” من ميغالومانيا حادة، وتخبط أفقدهما التوازن، وقد كان قليلًا من قبل.

أما لماذا قلت ما قلت من سبع سنوات، فلأسبابٍ عديدة أوجزها في الآتي:

  1. الامتداد الحضاري لليمن منذ فجر التاريخ، ومرورًا بالحقبة الإسلامية، أظهر عن شعب قوي، قادر، لا ينكسر بسهولة، اعتُمِد عليه في الحروب الكبرى، كالخندق والقادسية، ومصر، وصفين وغيرها، حتى وصل صيتهم الى فرنسا. وقد أثبتت المصادر التاريخية أن لليمنيين المساهمة الكبرى في المعارك وتحديد وجهتها
  2. الارتباط القوي لليمنيين بعقيدتهم، وتمظهر الأمر في سلوكهم الجهادي واليومي، يجعل منهم قوة هائلة تستطيع إنجاز ما لا يمكِّن الآخرين من مجاراتهم فيه مع ما يمتلكونه من موارد وإمكانات مادية ويفقدونه من عقيدة حقة.
  3. الطبيعة القاسية لليمن، وتأقلم اليمنيين معها، وانصهارهم فيها، جعلتهم وكأنهم واحد، يذوبون فيها، وتحتضنهم كأمٍ تدفع عن أولادها بجسدها، في مقابل جيش “مكروش” اعتاد الدعة وأكل الكثير من اللحم، ويقاتل لأجل المال وخدمةً لأهواء السلاطين المنسحقين على عتبات الاستعمار، وجل هذا الجيش من المرتزقة الذين ينفذون المهام القذرة كـ ” Black waters” سيئة السمعة. وأمام هذين المشهدين تبقى الغلبة لصاحب الحق المتجذر في أرضه، تجذر عتيق الأشجار الذاهب بجذوره عميقًا فيها.
  4. التحالف المؤيد لليمنيين لا ينطلق في حساباته وفق مصالح الربح والخسارة، فيقيس الأمور بناءً على مصالحه الذاتية حتى لو جرت على خلاف مصلحة حلفائه وإن هزموا أو قتلوا، كما هو تاريخ أميركا مع حلفائها، (يمكنكم قراءة تجارب الولايات المتحدة الأميركية في هذا الصدد من ألسنتهم، كمايلز كوبلاند، وجون بيركنز وتشومسكي، وأنصح بقراءة كتاب صراعات الجيل الخامس لإميل خوري)، فحلفاء اليمنيين، اليوم، مخلصون، أوفياء، يشتركون معهم بالقضية الحقة، ويدعمونهم بكل شيء ممكن، وهم على استعداد للاستشهاد معهم إن لزم الأمر.
  5. الشخصية اليمنية معروفة بإصرارها وصلابتها، وليس خافيًا على أحد أن اليمنيين لا يحبون فكرة الانسحاب حتى في تدريبهم العسكري، إلا لتغيير موقع القتال فقط وفقط لا غير، هذا غير إصرارهم على الاستفادة من أي فرصة ليتعلموا ما يمكِّنهم من مواجهة الحرب والحصار. ولست أبالغ إن قلت إن اليمنيين وبهذا الإصرار راكموا تجربة هائلة خلال 7 سنوات، قد يستغرق الكثير من المجتمعات عشرات السنين أو أكثر لمراكمتها، فصنعوا كل ما يمكن صناعته، وزرعوا كل ما يمكن زراعته، الصناعة للحرب وتحقيق توازن الردع وكسر هيبة العدو والانتصار عليه، والزراعة لتأمين القوت في الجبهات وللشعب المحاصر، بعد أن أكلوا ورق الشجر ونبات الأرض لأشهر أو أكثر.

وأخيرًا، أعيد تكرار ما قلته سابقًا، “من يُخرج السعودية من عنق الزجاجة”؟
يُخرجها رجوع آل سعود الى عقولهم، التي ما زالت جديدة غير مستعملة، وأن يستجيبوا لنداء العقلاء، بأن يوقفوا هذه الحرب العبثية، الظالمة، الغاشمة، فيحفظوا ما تبقّى من ماء وجه، على ندرته، ولا يفتعلوا حروبًا دونكيشوتية في خيم “الديونة” هنا وهناك، وأن يُخرجوا من رؤوسهم فكرة أن التاريخ يُمكن أن يعود الى الخلف، وتعود عقارب ساعتهم الى الوراء.

الزمن تغير، فتغيروا قبل أن يأتي يوم لا تجدون فيه مملكتكم على الخريطة، أو بالحد الأدنى عرشكم، وقد أكتب -إن أبقاني الله من الأحياء- بعد سبع سنوات أو أقل بكثير لأذكّركم حينها إن وجدتكم.

اساسياليمنمارب