رزق معنوي.. موسم الشهداء لم يتوقف

اتصل بي صديقي محمدي حوالي الساعة ١١ ليلًا وطلب مني الحضور إلى المقر. قلت له: الآن وصلنا إلى البيت وبدلنا ملابسنا. فقال لي: فقط لمدة عشر دقائق، لدينا ضيف مهم ضروري أن تأتي. وكما هي عادة الإيراني فهو لا يحب أن يكون مباشرًا ويتواصل بأسلوب خاص ربما تظنه في البداية عدم احترام أو ضعفًا في الإدارة. باختصار كان لا بد من أن نلبس وننطلق إليه.

المفاجأة كانت خارج المتوقع بتاتًا، أكثر من خمسين شخصًا بانتظارنا، أعرف منهم شخصًا واحدًا والباقون مجهولو الهوية. قلت لمحمدي: لماذا لم تخبرني؟ كنت جئت مع العائلة، إذا عرفوا بالأمر لن يسامحوني، فالضيوف سيغادرون صباحًا باكرًا. ذهب زميل لي وأحضر العائلة وانضموا إلينا.

سألت المعروف منهم، السيد مهدوي، المتواجد في الصحاري والقفار يتنقل بين كل المناطق منذ خمس سنوات: ماذا لديك؟
قال لي: في الدفعة الماضية استطعنا تشخيص عدد من شهداء حزب الله، يعلن عنهم عادة بعد الانتهاء من التعرف النهائي عليهم ويرسلون إلى أهلهم لتقر عيونهم، أما الآن فمعنا مجموعة أخرى من الشهداء، وإن شاء لله يكون بينهم من حزب الله، لأننا عثرنا عليهم في مناطق كانت ضمن محور عملياتهم.
ثم جلس مع الأولاد يروي لهم آخر قصة عن العثور عن آخر شهيد وجدوه واستطاعوا تحديد هويته، وكان من مدينة قزوين.

كان مهدي يحمل في يده خاتمًا وجده قرب الشهداء لكن لم يتمكن من تحديد صاحبه، لذلك سيبقى ضمن المقتنيات في معراج الشهداء في طهران، وهو يقع في منطقة منيرية في شارع بهشت.

منذ عدة سنوات وأنا أرغب في الكتابة عن هذا الموضوع، الملف النشط في إيران منذ أكثر من ٣٠ عامًا. ما أن انتهت الحرب المفروضة على إيران بقيادة صدام حسين [١٩٨٢- ١٩٨٨] حتى بدأت مجموعة من المبادرين بالاهتمام باسترجاع جثامين الشهداء من أرض المعركة، وخاصة من تلك التي كانت خطرة ولا يمكن الاقتراب منها خلال المعارك.

أكثر من ثلاثين ألف شهيد تم العثور عليهم بطرق وأشكال مختلفة، وبقي بضعة آلاف ما زال البحث عنهم مستمرًا دون توقف. عدد كبير من هؤلاء لم يتم العثور على هويته ولكن عمليات التطابق المخبري ما زالت جارية. لكن ولكي لا يبقوا في البرادات في المعراج تم الحصول على إذن من القائد الخامنئي لدفنهم في أماكن ومعالم لائقة، فانتشروا بأعداد قليلة، من اثنين إلى عشرة شهداء كحد أكثر، في الحدائق العامة والمساجد والجامعات والمؤسسات الكبرى، وبُنيت لهم النُّصُب والمجسمات والمقامات التي تهتم بهم وتجعلهم مقصدًا للزوار ومكانًا للبرامج والأنشطة الثقافية، واليوم هم موجودون في أكثر من ألف نقطة.

في زمن إغلاق باب الشهادة بعد الحرب، صنع هؤلاء موسمًا مستمرًا للتشييع والمراسم، وبعضها كان بأعداد كبيرة وصلت إلى 500 شهيد و700 شهيد عامَي ١٩٩٨ و ١٩٩٩ وثم بالعشرات، وكان من أهمها تشييع ١٧٥ شهيدًا غواصًا عام ٢٠١٥ حيث ضجت إيران بقصتهم، وكانوا ما زالوا تحت الماء لأكثر من ٣٠ عامًا.

مسؤول لجنة البحث عن مفقودي الحرب اللواء محمد باقر زادة

وعلى خلاف ما اعتاد عليه الناس خلال الحروب الكبرى في العالم، فإن الجمهورية الإسلامية في إيران، دأبت على استرجاع جثامين الشهداء وتسليمهم إلى عوائلهم، ولواء “تفحّص شهداء”، كما يسمى بالفارسي، أي البحث عن الشهداء، ما زال باللباس العسكري ولم تنته المعركة بالنسبة له. يذكر لنا اللواء السيد محمد باقرزاده أنه زار كثيرًا من الدول في عمليات ولقاءات مختلفة مع المنظمات الدولية التي تعمل في مجال المفقودين فاكتشف أنهم يتقدمون بمراحل في هذا الأمر، إن كان من خلال القيمة التي يحصل عليها الشهيد وعائلته، أو بالسعي الحثيث في البحث عن جثمانه. وقد رأيت مناطق في دول تحوي عشرات الآلاف ولكن لا يبحث عنهم أحد، بل وعرفت أننا وبسبب حجم جهدنا واهتمامنا نتقدم على الباقين في التجربة والخبرة والتقنيات التي نعتمدها أو تلك التي صنعناها للكشف والبحث.

في معركة سوريا، وإن كان عدد الشهداء قليلًا، لكن الموضوع مرتبط بقيمة كل فرد من هؤلاء، وعائلته التي تنتظره. يقول السيد مهدوي إن الحاج قاسم أرسل كتابًا للواء باقرزاده يطلب منه ويترجاه إعطاء هذا الأمر أهمية إضافية لأنه يخجل من عوائل الشهداء واللقاء بهم ما دام جسد شهيدهم لم يعد بعد.

بالأمس، كان رزقًا معنويًا ساقه الله، عندما استطاع زميلي محمدي أن يقنع السيد مهدوي بأن يحط ليلةً ضيفًا علينا مع عشرات الشهداء، فكانت ساعة خلا بها الشباب والأخوة والعائلة معهم، وناجوهم وسألوهم حاجاتهم ووقّعوا على أطراف من أكفانهم. فشكرًا لله وشكرًا للزملاء وشكرًا للأصدقاء وشكرًا للشهداء.

اساسي