السّياسة كياسةٌ أم خساسةٌ؟

“سياسة”، مفردةٌ مضطهدةٌ بمعناها، مظلومةٌ بتطبيقاتها، ولربّما صار إطلاقها حِكراً على الخداع والمكر. هي فنٌّ في الإدارة، ولا يحتاج هذا الفنّ إلّا لمبدعين، لكنّها اليوم أضحت تفنُّنًا في اللّصوصيّة، ومحصورةً بالمداهنين.

لا أسفَ على أمثالهم، وكلّ الأسف أن تُشرَّع للخساسة قوانينُ وضيعة، فتُستباح الحقوق بأمثالها المزيّفة، ثمّ يُقال إنّها السّياسة.

ومَن قال إنّ المُترئّس يجب أن يجلس على عرش منصبه مبجّلًا ومخدومًا بدل أن يكون خادمًا؟ ومَن قال إنّ هذا هو الإنصاف؟ طبعًا لا نجد مثل هكذا سُنن إلّا في شرائع الهيمنة والتّسلّط، فأين العدالة وأين الدّيمقراطيّة؟

في زمن الجاهليّة، نهض رجلٌ بشريعةٍ سمحاء، لو وُزِنَت بالكواكب والنّجوم لما كانت عِدلًا لها، ذاك الرّجل لم يرَ نفسه يومًا صاحب فخامةٍ ولا معالي ولا سعادة، ولو أنّ الأرض تُطوى طوع نعليه لكنّه فضّل أن يربط حجر الجوع على معدةٍ خاويةٍ للمواساة، وينام على الخشن الغليظ، كي لا يتنعّم هو بما لا يجده أحدهم في مشرقٍ أو مغربٍ.

قيل عنه إنّه مجنون وحاشاه، ونَعتَهُ بعض السّفَلَة بما لا يليق إلّا بأمثالهم، لكن هيهات أن يُقاس الثّرى بالثُّريّا، وأن يفهم أسير الإنّيّة والهوى كُنه سخاء النّفس والتّواضع والخُلُق الحسن، فترانا بعد أكثر من ١٤٠٠ عام وفي قرن ادّعاء الحداثة والتّكنولوجيا العظمى غارقين في مستنقعات الأمراض النّفسيّة حدّ الشُّذوذ، ولو صحّ القول لوصفناها بقذارات العنجهيّة والاستعلاء.

أيّة حضارةٍ تدّعون؟ حينما يعيش المسؤول في قصر، فالأولى له أن يخلع عنه ثوب الحُكم ويبحث عن المكان الّذي يُناسب تطلّعاته ولربّما لن يجده بين البشر.
وحيناً آخر عندما نشاهد، بأمّ العين التّشريفات والامتيازات الّتي شُرّعَت للمسمّيات السّياسيّة الحاكمة، فلا يجب لومهم هنا، بل الّذي يُلام هو كلّ من شَرَع في تأدية تزلّف السُّخرة في حين يجب أن يكون هو المخدوم. أيكون من الانحطاط والوضاعة أكثر من هذا الظّاهر الجليّ؟!

هم تسافلوا في أنانيّتهم ومن خلفهم شعوبٌ يتسافلون في تحقير أنفسهم، وقد جعلوا رقابهم في رباط الزّعامات خشية أن يفقدوا فتات الخبز أو بطاقة الانتماء العرقي والتعصّب المذهبيّ الجاهليّ. فمتى سيستفيقون ويعي جلّهم أنّ أمثال هذه الزّعامات هي زيفٌ من ورق، إن تجرّأتَ على تمزيقه فلن تكون نادمًا إلّا على عمرك الّذي أمضيته بالانبطاح والتّزلّف والاستجداء المخزي، وستشعر حينها بحقيقة العار والوضاعة الّتي أسرتَ نفسك فيها.

بالمقابل، عندما تجد أنّ فئةً من الأحرار تقول إنّهم أسيادٌ عند قادتهم، فلا تعجَب، ولكي تُنصِفهم فيجب أن تعترف بأنّهم وقادتهم سادة البشر، لأنّهم عرفوا الهدف ولم يُغيّروا الوجهة في سبيل تحقيق الحريّة والعدالة، ولم يستغلّوا المناصب والمسؤوليّات إلّا من أجل حفظ الحقوق وكرامة المستضعف وخدمته. هؤلاء هم أتباع الحقّ الّذي يجب أن يسود، وهؤلاء هم من لا تعرف لهم لا اسمًا ولا عنوانًا في غالب الأحيان، لأنّهم فضّلوا التّباعد عن الأضواء كي لا يقعوا فريسة “شوفة الحال”، أو حتّى تصل أعمالهم إلى خواتيمها المنشودة، ولا حاجة للجلبة الإعلاميّة الّتي ستُخرّب عليهم روح الخدمة والتّواضع بِلا منٍّ ولا أذيّةٍ.

هذه هي السّياسة، وحقًّا هي تليق بأمثال هؤلاء، فهُم الكيّسون الفطنون، والأهمّ أنّهم أصحاب النَّفَس الإنسانيّ، فالسّياسة ليست خساسة، ليست أموالًا طائلةً في بنوك الرّبا سُرِقَت ونُهِبَت من جيوب الفقراء، ولو تحت مسمّيات الشّرائع والدّساتير البرجوازيّة، وليست السّياسة وجهًا مُستَعبِداً للأرض والمال والأنفس، وتكون له كلمة الفصل وهو يدوس على كرامات النّاس دون أن يهتزّ له جفنٌ، ويَسْكَر على خمرة بطولاته الفرعونيّة. هي حقًّا ليست السّياسة، بل إن استفاق ضمير الأغلبيّة من الشّعب النّائم فسوف تُزال كلّ الأقنعة وستظهر الخُدع جليّة أمام عيون كلّ من يُبصر، حتّى القضاء الّذي سيُحاكمهم سيكون صاحب الكلمة الفصل، كلمة العدل، كلمة المظلوم والمهمّش، كلمة الإنسان في أوج الإنسانيّة، عندها سنعرف ما معنى السّياسة.

اساسي