اختلف تشخيص مصادر تهديد الأمن القومي لتركيا، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، مع انزياح رياح التهديد شيئًا فشيئًا من الشيوعية الدولية وتفرعاتها داخل الحدود، إلى التهديدات “اللامتماثلة” عند حدودها الجنوبية، تحديدًا في سوريا، وهي بقعة تضع فيها أنقرة السياسة الأميركية تحت مجهر سياسي وأمني دقيق، إثر رفض الأخيرة “آلية التعاون الأمني” المقترحة من جانب الولايات المتحدة في ذلك البلد. وإذا كانت صفقة صواريخ S-400، قد تلازمت مع توتر في العلاقات الأميركية التركية، فهي مرتبطة ببعد سياسي، له جانب خارجي متصل بمنعطفات سياسية في علاقات أنقرة مع واشنطن وشركاء آخرين في حلف “الناتو”، وجانب داخلي متعلق بحاجة أردوغان لتحسين صورته قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في تركيا على وقع أزمة اقتصادية خانقة، إضافة إلى بعد آخر تقني سقفه حاجة أنقرة إلى بناء صناعات دفاعية محلية.
أنقرة لواشنطن: طريقنا ليس واحدًا
فقد شكل نهج “الأحادية الأميركية” في الشرق الأوسط، خلال العقدين الأخيرين، تربة خصبة لاستشعار حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتهديد، مصدره هذه المرة ليس جهة تقف على طرفي نقيض من تركيا، بل دولة حليفة، هي الولايات المتحدة. هذا التصور تعززه اختلالات السياسة الخارجية لواشنطن في المنطقة، كما ظهر إبان غزو العراق، والحرب السورية، وانعكاساتها “الجذرية” على العلاقات الأميركية – التركية. في حقيقة الأمر، إن قرار الولايات المتحدة غزو العراق عام 2003 رغم معارضة البرلمان التركي، والتي عكست وقتذاك مناخات عدم الثقة التي عايشها الأميركيون والأتراك أيضًا مطلع التسعينيات خلال حرب الخليج الثانية، وكذلك إحجامها عن معالجة الهواجس الأمنية لأنقرة إبان الحرب السورية، قد حملت معها “تباينات جذرية” غير مسبوقة بين الجانبين، على نحو دفع تركيا، وبصورة تدريجية، بعيدًا عن المسار الأميركي. فتردد واشنطن في تقديم ضمانات كافية لحليفتها على كافة المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية لحقبة ما بعد الغزو، في الحالة العراقية، علاوة على دعمها الواسع للجماعات الكردية المسلحة، المصنفة “إرهابية” من جانب أنقرة على خلفية اتهامها بالارتباط بـ “حزب العمال الكردستاني”، في الحالة السورية، دفع أنقرة نحو موسكو، نظرًا لمراعاة الأخيرة مخاوف أنقرة الأمنية بشكل أكبر، وهو أمر لم يكن ممكنًا تصوره قبل سنوات. يتقاطع هذا مع تقارير غربية تشير إلى أن الأتراك باتوا على قناعة تامة بأن الولايات المتحدة قد تضحي بمصالحها مع حكومة أردوغان على مذبح علاقتها بالجماعات الكردية المسلحة، خاصة في سوريا. على هذا الصعيد، يرى المحلل التركي سنان أولجن أنه لم يسبق لقرار سياسي في تاريخ العلاقات الأميركية – التركية أن ألحق ضررًا بصورة أميركا في الشارع التركي، بقدر ما أحدثه قرار واشنطن مواصلة تسليح “وحدات حماية الشعب” الكردية، و”قوات سوريا الديمقراطية”، موضحًا أن التكلفة تمثلت بعزلة تامة لأنقرة. من جهة أخرى، لا يتوقع مدير برنامج أبحاث تركيا لدى معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، سونير كاباجتاي أن تبادر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تغيير سياستها إزاء دعم “قسد” في سوريا، بفعل الاعتراضات التركية، لافتًا إلى أن بايدن “يعلم أنه قد يضطر إلى الاختيار بين دعم الديمقراطية أو أردوغان”، في إشارة إلى استمرار الخلافات الثنائية بشأن ملف حقوق الإنسان في الداخل التركي. أما بالنسبة للمدير المسؤول عن مشروع تركيا لدى “مجموعة الأزمات الدولية”، نيغار غوكسل، فإن المسألة تنطوي على سؤال أكثر تعقيدًا مفاده: “كيف يمكنك ألا تخسر تركيا، وفي الوقت عينه تعمل على كبح جماح أردوغان؟”
البديل الروسي جاهز لمراعاة الهواجس التركية
وبالنظر إلى أن هدف محاربة “حزب العمال الكردستاني”، يأتي على رأس الأجندة الأساسية لحكومة أردوغان الحالية، انسجامًا مع مصالح انقرة التاريخية في منع قيام كيان كردي مستقل في سوريا والعراق، ودرء انعكاساته على الداخل التركي، فُتح الباب أمام أنقرة لتحسين علاقاتها مع موسكو.
وفي ضوء اتهامات تركيا لواشنطن بدعم قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية، وتعذر الاتفاق بين الدولتين الحليفتين حول دور الأكراد في مستقبل سوريا، لجأت أنقرة إلى روسيا، الحليف الأساسي لدمشق، من أجل توسيع دورها على الساحة السورية بدءًا من العام 2017 عقب توقيع اتفاقية صفقة S-400. واتسم الدور التركي بعد ذلك بنشاط كبير بعد التوصل الى تفاهمات مع روسيا بشأن الوضع في سوريا، فأطلقت يد أنقرة لتنفيذ عملية “درع الفرات” عام 2016 ومن ثم عملية “غصن الزيتون” عام 2018 لتحييد ما تسميه “الخطر الكردي” ما أتاح لها التواجد عسكريًا داخل الأراضي السورية، ومنحها أوراق قوة يمكن أن تستخدمها في أية ترتيبات مستقبلية لحل الأزمة هناك. ومن منظور خبراء في الشأن التركي، فقد أسهم التقارب الروسي التركي، من جهة، وحالة الضعف التي تعتري الدول المجاورة لتركيا من جهة أخرى، في تكثيف النشاط العسكري لأنقرة في سوريا والعراق بمستويات غير مسبوقة منذ سقوط السلطنة العثمانية.
ووفق مجلة “ناشونال انترست”، فقد أظهرت مشاركة تركيا، إلى جانب روسيا وإيران، في منصة آستانا لخفض التصعيد في سوريا، أن لدى الأطراف الثلاثة وجهات نظر متقاربة أكثر من أي وقت مضى إزاء الحل النهائي للأزمة هناك، لا سيما لجهة رفض التموضع العسكري الأميركي جنبًا إلى جنب مع “قوات سوريا الديمقراطية”، شرق الفرات. وتضيف المجلة أن تعاون الأطراف الثلاثة “يضع الولايات المتحدة في موقف صعب، حيث تبدو تركيا، وقد حددت وجهة سياستها السورية، ماضية في مسار يصعب تغييره، في اتجاه تعزيز الشراكة مع روسيا، وتوثيق التعاون مع إيران”، لافتة إلى أن أنقرة “تسير باتجاه مختلف على المدى البعيد، ذلك أن انعطافتها باتجاه موسكو، باتت أمرًا مفروغًا منه”. وتخلص المجلة إلى أن غضب أنقرة من الدعم الأميركي لـ “قسد”، سرّع من وتيرة هذه الانعطافة، معتبرة أن موسكو بدورها، تنظر إلى العلاقة مع تركيا كأولوية في سياستها الخارجية، كونها أحسنت استغلال الخلاف بين واشنطن وأنقرة من أجل ضعضعة “الناتو”، كجزء من ردها على تحركات الحلف في القوقاز وأوكرانيا، ودول البلطيق.
ففي مقابلته مع صحيفة “نيويورك تايمز”، ولدى سؤاله عمّا إذا كان السلوك الخارجي لأنقرة، ومن ضمنه تعاونها العسكري مع روسيا، يستأهل إلحاق الأذى بعلاقاته مع الولايات المتحدة، رد الرئيس أردوغان بالإيجاب، مشددًا على حق بلاده في شراء الأسلحة من أي جهة، ملمحًا إلى انزعاجه من تلكؤ واشنطن في توريد بطاريات “باتريوت” إلى تركيا، والعقوبات الأميركية المفروضة عليها.
وبحسب الصحيفة، فإن كلام الرئيس التركي، وفي معرض تأكيده أن العلاقات التركية مع الإدارة الأميركية الجديدة “ليست على ما يرام”، يوضح أنه بصدد “التوجه نحو شريك بديل (لواشنطن) على صعيد الطاقة وصفقات الأسلحة هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين”، وأنه لا عودة عن صفقة S-400 معتبرًا أن بلاده “قوة إقليمية” لا ينبغي لواشنطن أن تملي عليها خياراتها، وسياستها الخارجية.
وفي هذا الإطار، يرى مدير برنامج تركيا لدى “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” أن “خطط أردوغان لشراء صواريخ S-400 يجب أن تقرع جرس الإنذار لدى إدارة بايدن”، مضيفًا أن “الرئيس التركي سوف يواصل دوره التخريبي داخل حلف الناتو، وسوف يوفر لبوتين فرصًا إضافية من أجل تقويض الحلف، والقيم التي يمثلها”. ولا يخفى أيضًا، أن التقارب التركي- الروسي، وفوائده المرتقبة على الصعيد الاقتصادي، بخاصة لناحية استيراد الغاز الروسي بأسعار تفضيلية، يعكس في جانب ما حاجة داخلية لحكومة “العدالة والتنمية” من أجل تقديم إنجازات للجمهور التركي، سواء في السياسة، أو في الاقتصاد، في ظل سوء إدارة الملفات الاقتصادية على وقع أزمة “كورونا”، وارتفاع معدلات البطالة والتضخم والانخفاض القياسي في قيمة الليرة التركية. من هذا المنطلق، يشرح الباحث في شؤون العلاقات التركية الروسية كريم هاس أن “أردوغان ربما يكون مضطرًا إلى استكمال شراء دفعة ثانية من صواريخ S-400 من أجل إنقاذ نفسه” أمام الرأي العام التركي.
أزمة ثقة غير مسبوقة بين واشنطن وأنقرة وأردوغان يخشى الإطاحة به
مما لا شك فيه أن حكم أردوغان يعاني من أزمة ثقة عميقة في علاقاته مع الولايات المتحدة، بدءًا من ملف الدور المشبوه لإدارة الرئيس باراك أوباما إبان انقلاب العام 2016، مرورًا بتهديدات ترامب بتدمير الاقتصاد التركي، وصولًا إلى تصريحات بايدن خلال حملته الرئاسية بوجوب دعم المعارضة التركية، تحت عناوين “القيم الديمقراطية”. وبحسب محللين أتراك، يدور حديث جاد الآن في أوساط رجالات حكم حزب “العدالة والتنمية”، عن وجود جناح متشدد داخل واشنطن، عماده مجمع الاستخبارات والجيش، يحمل نزعة عدائية تجاه أنقرة، وإن كان البعض يضع الأمر في إطار إلقاء تبعات ما تعانيه تركيا في الداخل على جهة خارجية. على سبيل المثال، يأتي ما تروجه وسائل الإعلام الموالية لأردوغان كصحيفة “يني شفق” حين تناولت سيناريو اندلاع مواجهة عسكرية بين الأسطولين الأميركي والتركي، ووكالة الأناضول التي كثيرًا ما تنتقد أداء “القيادة الأميركية الوسطى” العاملة في الشرق الأوسط. يضاف إلى ذلك، ما يتردد من أنباء بين وقت وآخر حول قيام “وحدات حماية الشعب” الكردية باستخدام أسلحة أميركية الصنع، بينها صواريخ “تاو” و”جافلين” المضادة للدبابات، ضد القوات التركية في سوريا، الأمر الذي حدا ببعض القادة والسياسيين المقربين من حكومة أردوغان إلى خلق انطباع حول تعمّد قيام الولايات المتحدة بالدفع إلى حرب غير مباشرة مع تركيا، عن طريق دعم الأكراد عسكريًا. وتأسيسًا على هذا المستوى من عدم الثقة بواشنطن، ترى بعض الأوساط المحسوبة على الحكومة أنه من مصلحة تركيا شراء نظام دفاع صاروخي متقدم بعيد المدى، قادر على رصد الطائرات والصواريخ الأميركية الصنع وتلك التابعة لحلف “الناتو”، والاشتباك معها على أنها معادية، لأنهم يعتقدون أن أنظمة باتريوت PAC-3 المقترحة لن تقوم بتلك المهمة. فالرئيس التركي يستشعر أن الولايات المتحدة تنوي الإطاحة به، على خلفية اتهامه لها بلعب دور في انقلاب صيف العام 2016، ومحاولة الانقلابيين وقتذاك إسقاط طائرته من خلال طائرات f-16 الأميركية الصنع. لذا، يجزم مقربون من أردوغان، أن سعيه الدؤوب من أجل الحصول على نظام دفاع صاروخي غير تابع للمنظومة العسكرية لـ “الناتو”، مرتبط برغبته في إحباط انقلاب محتمل قد تدبره واشنطن في المستقبل. ووفق هؤلاء، هذا بالضبط ما تفعله منظومة S-400 الروسية، مع التذكير بما واجهته أنقرة عندما سحبت ألمانيا، حليفتها في “الناتو” بطاريات “باتريوت” الخاصة بها من الحدود السورية التركية في عام 2015.
من هنا، بالنظر إلى عمليات حظر الأسلحة المتكررة من قبل حلفائها في الناتو، وما أحدثته من فجوة في منظومتها الأمنية والعسكرية، يمكن فهم قرار تركيا بناء صناعة دفاعية محلية مستقلة، وتضمين صفقات الأسلحة بندًا يتعلق بنقل التكنولوجيا. وفي حين أدرجت روسيا بند نقل التكنولوجيا في اتفاقية S-400، فقد استغرقت الإدارة الأميركية سبعة عشر شهرًا لتجديد عرضها لبيع نظام صواريخ باتريوت بشروط لا تتضمن نقل التكنولوجيا. إلى ذلك، تميل صحف أميركية إلى القول إن “الجانب الأكبر من النشاط الديبلوماسي لأردوغان مع الجانب الروسي، يمكن تفسيره على أنه تموضع تفاوضي” بغية تحصيل مكاسب من الإدارة الأميركية الجديدة.
ومع ذلك، يذهب محللون غربيون إلى أن حالة “الفوضى الشاملة” التي تعيشها العلاقات الأميركية التركية اليوم كانت في طور الإعداد لبعض الوقت، قبل أن تتسارع وتيرتها في العقد الأخير بسبب تفجر الأزمة السورية، معتبرين أن السياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط قد باتت “أكثر استقلالية”، وترفض الإذعان لإكراهات واشنطن. فمن منظورهم، كلما عقدت الولايات المتحدة عزمها أكثر على ممارسة سياسة “ليّ الذراع” مع تركيا، كلما اقتربت أنقرة من موسكو أكثر فأكثر. ويبدو أن واشنطن لم تكتفِ بإقصاء أنقرة من برنامج مقاتلات F-35 من الجيل الخامس، كإجراء عقابي لها على خلفية صفقة الصواريخ الروسية، بل يبدو أنها بصدد مواصلة امتناعها عن تسليم حليفتها بالمزيد من طائرات إف-16 المحدثة (F- 16V) تحت مسوغات قانون “مواجهة خصوم أميركا من خلال العقوبات” CAATSA ، علمًا أن تركيا هي أول دولة من “الناتو” يطبق عليها القانون المذكور، ما يهدد بالمزيد من تدهور العلاقات بينهما. الأمر لا يخلو من دلالات رمزية عميقة على هذا الصعيد، إذ لطالما شكلت مقاتلات F-16 إحدى أبرز العلامات الراسخة للحلف العسكري المميز بين الولايات المتحدة وتركيا، وها هي اليوم تطبع مصير “العلاقات الاستراتيجية” التركية مع واشنطن، وتحدد الوجهة الجيوبوليتيكية المقبلة لأنقرة. فإلى أين ستكون هذه الوجهة؟