كنت اشاهد منذ فترة مقطعًا مصورًا يظهر فيه حمار مع مجموعة من الكلاب وهي تنهش في فريسة، ولم يتسنّ لي اثناء متابعة الشريط التعرف على هوية الضحية، وعلى جنسها وجنسيتها والى اي قبيلة حيوانية تنتمي، فضخامة كتلة الحمار استحوذت على كامل المشهد وحالت دون السماح بذلك. على كل حال التعرف على الفصيل الذي تنتمي اليه الفريسة لم يكن الحدث الأهم في المقطع المصور، فالامر الذي لفت انتباهي ودفعني الى متابعة المشاهدة ومعرفة ما يحدث، كان نفس وجود الحمار بين الكلاب واشتراكه وبوحشية غير مسبوقة بالانقضاض على فريسة، مجهولة الهوية، والتسابق على نهشها الى درجة لم تتمكن معها حتى الكلاب صاحبة الاختصاص من المشاركة الطبيعية والروتينية في حلبة الصراع بدافع غريزة البقاء او الانتقام من مجهول، او حتى التزود ولو بقليل من البروتيين وبجرعة من الادرنالين. فبيت القصيد في هذه المشهدية هو ان حمار مقطع الفيديو كان مثالًا ومصداقًا لتجربة حيوانية، قد تكون الاولى من نوعها حتى لو انها جاءت عن طريق الصدفة، فحمارنا هذا كان ابن بيئته، فمن عاشر كلبًا اربعين يومًا اصبح كلبًا مثله ولو كانت اذناه طويلتين وكانت ألحان موسيقى صوته شهيقًا لا عواءً، فذنَب الكلب لو وضع في قالب دهرًا لبقي على اعوجاجه، على عكس حمارنا هذا، الذي تخلى عن هويته وتنازل عن حمرنته وبلادته وتطنيشه ليتحول الى حمار بالشكل وكلب بالمضمون. فلعل حمارنا المتحول قد تحول بالفعل وبدء رحلة الانتفاضة على التاريخ والزوولوجيا وعلى مجتمعاتنا التي ما انفكت استغلالًا واستحقارًا له ليلا نهار دون حسيب او رقيب، فاسخدام لقب الحمار في مجتمعنا العبقري لا يعرف حدًّا ولا عدًّا، فلقب الحمار يدور في كل مجلس ومقام ويتجاوز حواجز الانتماءات العرقية والدينية والحزبية والحدود العمرية والاعتبارات المعنوية؛ فالولد الذي لا يجيد ربط شريط حذائه يناديه البعض بالحمار، والطالب الراسب في مدرسته حمار، والحرفي غير الماهر حمار، والذي يعمل دون توقف، وبأشغال اقل ما يقال عنها شاقة لقبه هو ايضًا حمار، ففلان حمار شغل، يقول احدهم عن احدهم، وآخر حمار سياسة، لقب يناله الاغلب الساحق من ابطال الشاشات التلفزيونية والبرامج السياسية الذين يعملون كمحللين سياسيين وكتاب ومفكرين، وهناك ايضًا مقامات مرموقة يصلها في الكثير من الاحيان والظروف شرف نيل لقب الحمرنة؛ فكم من وزير يناديه المواطن فلان بالحمار، وكم من مدير يناديه رئيسه المباشر، اي الوزير، اي الحمار، يا حمار، وسلسلة المسمين الحاصلين على اسفل واسرع شهادة تخرج في تاريخ المجتمعات البشرية، تستمر دون توقف؛ فها هي تدق ابواب علم المنطق فتصطدم بما يعرف بالسلسلة اليونانية، المرفوض تسلسلها، لأنه لن يقودنا الى الحمار النهائي او الحمار الاول في هرمية المجتمع والادارة او الدولة والسياسة.
ومن هنا، وبالعودة الى حمار مقطعنا المصور، الذي تحول الى كلب بقدرة قادر وبمبادرة شخصية وفردية، ومن دون الغوص في تفاصيل حياته وخصوصيته، اللتين تحميهما قوانين المجتمعات العبقرية وجمعيات الرفق بالحيوان، فإننا وامام هكذا تحول نجد انفسنا مجبرين على ان نفكر بالامر بشكل استراتيجي ونضع الفرضيات العلمية التي تمكننا من استشراف المستقبل.، فلنفترض، مجرد افتراض لا اكثر، أن امرًا ما حصل في اروقة القانون والسياسة وتم على اثره اصدار قرار، حميريّ جرئ، من قبل الوزير او المدير اللذين جئنا على ذكرهما سابقًا، وتقرر اعطاء الجنس الحميري حق التعويض المادي على حقوق النشر والتعويض المعنوي على استغلال المكانة الحيوانية والتجريح بالسلالة الحميرية، طبعًا سوف تكون النتائج الاولية لمثل هكذا قرار، على مجتمع العباقرة والكبرياء، كارثية، يتزلزل على وقع صدورها، عالما السياسة والاقتصاد، وتصبح الحمير بين ليلة وضحاها من اسياد المال ورجالات الثراء والحكمة ايضًا، فيتحول الحمار الطبيعي من حمار حاف الى حمار معزز مكرم تحيط به الالقاب من كل اتجاه، فالحمار يصبح جلالة الحمار ومعالي الحمار وفخامة الحمار وسعادة الحمار، فلست ادري اذا كان الحمار الذي أحدث كل هذا التغيير، فطِن الى هذا الحد او حكيم الى هذه الدرجة، ولست ادري ايضًا اذا كان هو ذات الحمار الذي تحدث عنه الشاعر العراقي المشهور الذي توفي في المهجر، واعني هنا احمد مطر، في قصيدته الشهيرة الحمار، والتي ملخصها ان حمارًا ما انزعج من اهانات البشر له وزعل الى درجة الاكتئاب لكنه في نهاية القصة وبعد تدخل جده وتوضيح حقيقة بني آدم الذين بدأت قصة وجودهم بالمعصية ولم تنتهِ بقتل الاخ لأخيه، اقتنع بهويته لا بل راح يفتخر بها.
على كل حال حمار قصتنا اصبح بموجب القوانين محميًّا، وبات التقاذف بلقب “يا حمار” جرمًا ماديًّا ومعنويًّا، يعاقب عليه المتنابذون به، اللهم الا اذا تمكن هذا المخلوق العبقري كعادته من ايجاد مخرج قانوني يلتف من خلاله على التسمية، مع الحفاظ على المعنى، فيكون الحل، على سبيل المثال، بدل القول “فلان حمار”، القول “فلان حشا الحمار”، وبعد ذلك يتم العمل على تعميم تجربة الفيديو على نطاق واسع ليتحول مجتمع الكلاب، الشاردة الجائعة المفترسة، من كلاب تنهش الفريسة معتمدة على نفسها ونفسيتها، الى مجتمع من الكلاب تتحكم به وتديره مجاميع من الحمير، وعندها نجد انفسنا نحن الذين جلسنا في السطور العليا من هذا المقال لنفكر استراتيجيًا، ملزمين بإيجاد تسميات وألقاب بديلة تليق بمستخدميها، ولأسباب ايديولوجية واجتماعولوجية، كبديل عن لقب اخونا الحمار سابقًا، نتفق على استخدام لقبين نقسمهما على فئتين، الاولى الفئة العامة “الحميرية سابقًا” فتنال شرف لقب “الخروف”، وهو لقب اقرب الى القلوب والى المعدة ايضًا، والفئة الثانية التي نخصصها الى أصحاب المقامات العالية فأولائك لا يليق بهم لقب الخروف لانه لا يعطيهم حقهم وحجمهم الطبيعي ناهيك عن مخالفته لمنطق الطبيعة، فلا يمكن ان يكون قائد الخواريف خاروفًا وراعي الخواريف خاروفًا؛ فمن يتصدر القطيع لا بد ان يكون “تيسًا” من الطراز الاول يعاونه في اداء مهامه في السيطرة على القطيع “كلب” عادي او مجموعة من “الكلاب” تدور معه كيفما دار وتسير على وقع خطواته التي يرسمها صوت الجرس المعلق في رقبته.
وفي ختام جلسة التفكير الاستراتيجي نصل الى استنتاج ملفت لا نعلم اذا كان يسعد او يحزن الحمار الاصلي او حمارنا المتحول، فعلى الرغم من كل المتغيرات وعلى الرغم من تحول حمار تجربتنا النفسية من حمار حمار الى كلب ابن حمار، الا ان قطيع خواريف مجتمعاتنا لا يزال مصرًّا على حمرنته، ومستعد ومستمر في دفع غرامة الحمرنة حتى لو ادى به ذلك الى السقوط في الهاوية، وعلى الرغم من كل ما يحيط به من مخاطر ومن تحولات دراماتيكية وتجارب اجتماعية، لا يزال متمسكًا، وبمحض ارادته، وعن سابق اصرار وتصميم بلقب “الحمار” الذي يقاد كالخروف من قبل تيس تسانده مجموعة لا بأس بها من الكلاب ابناء الكلاب.