تعيش منطقتنا العربية منذ مئة عام وأكثر تحت تأثير وإدارة القوى الغربية منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى مرورًا بوعد بلفور وتداعياته وصولًا الى يوم النكبة في العام 1948 وإقامة دولة الاحتلال.
ولعل التطور الأكبر الذي نعيش آثاره لغاية اليوم حمله معه العام 1945 بعد أن تم توقيع اتفاق عرف باتفاق كوينسي بين الملك عبد العزيز آل سعود المؤسس للمملكة العربية السعودية والرئيس الاميركي آنذاك فرانكلين روزفلت، والذي قضى بتوفير الولايات المتحدة الأمن والحماية لآل سعود مقابل ضمان حصول الأولى على النفط والغار العربيين طوال مدة 60 عامًا. وقد تم تجديد هذه الاتفاقية عام 2005 مع الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش.
خلال هذه الأعوام ارتبط اسم آل سعود، ومن خلفهم مملكات وإمارات الخليج التابعة، بالولايات المتحدة الأميركية وسياساتها الرامية الى إحكام السيطرة على مقدرات المنطقة الطبيعية وضمان حماية وأمن كيان الاحتلال. ولعل السعودية على وجه الخصوص وخلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي عملت على لعب دور مركزي في إدارة شؤون الأمة العربية والإسلامية من خلال موقعها الاستراتيجي إسلاميًا، وقوتها الكبيرة ماليًا، والتي مكنتها من الريادة في إدارة أزمات المنطقة وضبط حركة أنظمتها بما يتناغم مع المصلحة الأميركية دون صدام مباشر مع حركات المقاومة والتحرر.
يعتبر احتلال العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأميركي وحلفائها محطة مفصلية في تاريخ المنطقة كونها اأسست لمرحلة وأسلوب جديدين في إدارة الولايات المتحدة لمصالحها في منطقتنا العربية بشكل مباشر بعيدًا عن وكلائها وأدواتها. فماذا عن الأنظمة الخليجية المتأمركة ودورها؟ ولماذا اضطرت الولايات المتحدة لدخول الميدان بنفسها دون وكلائها؟
تشكل المرحلة الممتدة من العام 2003 ولغاية العام 2011 بداية التحرك الذي انتهى بحرب كونية على سوريا، مرحلة أساسية في قراءة الدور الأميركي وما آلت إليه الإدارة الأميركية المباشرة وغير المباشرة لمصالحها في المنطقة، وهذا ما يعكسه أداء الأنظمة التي تدور في الفلك الأميركي من شمال إفريقيا الى الخليج الفارسي مرورًا ببحر العرب، وما آلت إليه مصائر الرؤساء والأنظمة العربية فيما سمّي بالربيع العربي خصوصًا تلك الأنظمة التي اشتهرت بولائها التام للولايات المتحدة الأميركية.
إن دخول الولايات المتحدة بشكل مباشر الى ساحات المعارك في المنطقة لا يعد مؤشرًا إيجابيًا بالنسبة لها. وإذا ما أردنا القياس، فإن القوي عادة يستخدم أدواته لتحقيق أهدافه دون تلويث يديه، لكن عندما يصبح الوكيل عاجزًا -لأكثر من سبب- عن تأمين تلك المصالح بالنجاعة المطلوبة، يضطر الأصيل لاستخدام قوته لفرض إرادته. لكن أين تكمن المشكلة؟ ولماذا الحديث عن تراجع أميركي؟
إن قياس المعارك التي تخوضها الدول يكمن بتحقيق الأهداف لا بحجم الخسائر والأكلاف. ولعل ما جاء لتحقيقه الاميركيون في المنطقة هو ضرب العمود الفقري لحركات المقاومة الذي يعتمد على الإمداد السوري والغطاء السياسي واللوجستي الذي تؤمنه الجغرافيا السورية والدولة والجيش. فبعد أكثر من أحد عشر عامًا من الحرب التي استخدمت فيها كافة الأساليب والإمكانات مما تمت تجربته بالسابق وما هو مستحدث منها، بقيت سوريا نظامًا وجيشًا وجغرافيا في خدمة حركات قوى المقاومة في المنطقة واستمرت ممرًا ومقرًا أساسيًا لها.
اليوم وبعد مرور أكثر من عقدين على دخول الولايات المتحدة وحول المنطقة العسكرية والسياسية والأمنية بشكل مباشر، وبعدما ظهرت قوى جديدة نامية وآخذة في التطور بعقيدة قائمة على مقاومة الاحتلال الأميركي للمنطقة وقتال كيان الاحتلال، انطلاقًا من الحشد الشعبي في العراق مرورًا بأنصار الله في اليمن والجيش السوري والحلفاء وصولًا الى حركات المقاومة في الأراضي المحتلة وقبل وبعد حزب الله في لبنان، فإنه لم يعد هناك مكان للشك بأن الاستراتيجية الأميركية في المنطقة تغيرت مع تغير موازين القوى وتحقيق قوى المقاومة انتصارات كبرى بفعل الصمود والصبر الاستراتيجي الذي انتهجته طهران حاملة لواء إخراج الولايات المتحدة من المنطقة ودعم حركات المقاومة في كل مكان. يضاف الى ذلك رصد الولايات المتحدة إشارات الخطر الاستراتيجي القادم من الشرق بحيث بات تطور الصين تكنولوجيًا وتنامي النفوذ الروسي، خصوصًا على شواطئ المتوسط، يعجلان من توجه الأساطيل الأميركية شرقًا أمرًا محسومًا.
لقد انعكس تغير الرؤية الأميركية للمنطقة وملفاتها الساخنة على أدواتها وحلفائها وقدرتهم على التكيف مع المستجدات، بحيث لم تعد الخيارات الأميركية بالضرورة تتناسب مع أدواتها وحلفائها في المنطقة انطلاقًا من كيان الاحتلال مرورًا بأنظمة الخليج المطبعة وغيرها. وعلى ما يبدو، فإن انهماك الولايات المتحدة بتأمين مصالحها بشكل مركز دفع بعض حلفائها للتفلت من قبضتها التي لم تعد حديديةً كما كانت طوال عقود. لذا بتنا نشهد تباينًا واضحًا في النظرة الأميركية لملف التفاوض مع الجمهورية الإسلامية على برنامجها النووي، بحيث يعتبر كيان الاحتلال أن الخيار العسكري مع إيران هو الأجدى على عكس ما تراه الولايات المتحدة، لغاية الآن.
أيضًا، فإن الفشل السعودي في اليمن، على سبيل المثال، دفع بالممكلة الى الجنوح نحو خيارات أكثر تطرفًا لا تجد فيها الولايات المتحدة مصلحة كاملة لها، وهي أخذت بتوظيف بعض إخفاقات محمد بن سلمان بعملية ابتزاز طويلة لحلب ما تبقى من حليب البقرة السعودية من نفط ومال.
إن الولايات المتحدة لا تبدو لغاية الآن، رغم ما تقدم، في وارد ما يحكى عن انسحاب من المنطقة، بل قد تكون إعادة تموضع بأقل الأكلاف الممكنة، بحيث تضمن من خلالها الحد المقبول من مصالحها مع الأخذ بعين الاعتبار موازين القوى الجديدة والعمل على فض الاشتباك مع القوى الصاعدة.
الأمر أكثر تعقيدًا، إذا ما أخذنا موضوع غاز المتوسط والصراع الأميركي الروسي بعين الاعتبار، وملفات أخرى على رأسها خط الحزام والطريق الصيني. لذا فإن المنطقة تشهد اليوم ذروة الاشتباك والصراع الدولي -الإقليمي على المصالح السياسية والاقتصادية بين المعسكر الأميركي الإسرائيلي من جهة وتحالف محور المقاومة والصين وروسيا من جهة، بمعزل عن تفاصيل التباين والاتفاق بينها.
مؤشرات الوصول الى حل سياسي للاشتباك على قاعدة التسويات الكبرى اليوم تراجعت أسهمها بشكل كبير، ومردّ ذلك إلى عدم تسليم الولايات المتحدة بشكل كامل بالتغير الجيوسياسي الذي يأخذ شكله شبه النهائي اليوم، إضافة الى مخاوف كيان الاحتلال “المحقه” على أصل وجوده أمام تمركز القوى المعادية في سوريا ولبنان.
ذروة التصعيد يتبعها اصطدام كبير يتمخض عنه مشهد جديد قد يكون فيه الأميركي أكبر الخاسرين.