لطالما شكّل سؤال “هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟” موضع جدل عند العديد من العلماء والفقهاء المسلمين والفلاسفة المتأخّرين، ويقصدون بذلك هل لدى الإنسان حريّة الاختيار الحقيقية في حياته وتصرفاته أم إنّه مسيّر بحسب ما كُتب له بالأزل؟
من الأسئلة التي تثير جدلًا كبيرًا في لبنان سؤال بنفس التركيبة المذكورة آنِفًا. هل الشعب هكذا لأن الحكام كذلك أم العكس؟ أي هل حاكمو لبنان موجودون بمراكزهم لأنّهم مجرّد صورة مصغّرة عن الشعب واختلافه أم إنّ الشعب واختلافه موجودان بسبب الحكام الذين يحكمون لبنان اليوم؟
وهنا لا بدّ من الغوصِ في تاريخ كلّ واحد من الزعماء، من أين أتى وليد جنبلاط مثلًا؟ سمير جعجع؟ سعد الحريري؟ نجيب ميقاتي؟ الخ.. هل جاؤوا كلهم بنفس الطريقة؟ فمِن الحاكمين اليوم أو الزعماء أو النواب من هو سليل إقطاع، ومنهم أمير الحرب، ومنهم أصحاب رؤوس الأموال ومنهم من هو مجرّد وريث سياسي ورث السلطة والمركز عن أبيه أو عمه أو أحد أفراد عائلته.
لعلّ أقدم هذه الأسماء في تاريخ السياسة اللبنانية هو “جنبلاط” متمثّلًا اليوم بوليد جنبلاط، ولو أنه لا يشغل منصبًا رسميًا، ولكنه في الواقع أقوى تأثيرًا من النواب أو الوزراء. آل جنبلاط من أقدم العائلات إن لم تكن الأقدم التي تولّت حكمًا في لبنان -أو جبل لبنان كما كان يُعرف سابقًا- وما زالت، وتوالى أفراد هذه العائلة الإقطاعية بالتوارث منذ العهد العثماني حتى تيمور وليد جنبلاط الذي يشغل حاليًا منصب نائب في البرلمان اللبناني. فإذًا وليد جنبلاط هو وريث إقطاع تاريخي، وكان لحزبه تاريخ في الحرب الأهلية ويُعتبر ممثلًا للطائفة الدرزية، فبرز دوره بعد انتهاء الحرب اللبنانية في فترةٍ عُرفت باسم الجمهورية الثانية، وكسب نفوذًا حتى أُطلق عليه تسمية الرئيس الرابع أثناء الوجود السوري في لبنان.
سمير جعجع الملقّب بـ”الحكيم” كان طالبًا في الجامعة الأميركية، حيث كان يدرس الطب قبل أن يترك الجامعة ليحمل البندقية ويبدأ مشواره في ميليشيا حزب الكتائب اللبنانية التي عرفت باسم القوات اللبنانية التي سيصبح بعد ذلك ضابطًا فيها وصولًا لتولّيه رئاستها عام 1986، وليكون أحد أبرز وجوه الحرب الأهلية اللبنانية قبل انتهاء الحرب وسجنه لاحقًا عام 1994 بتهمة تفجير كنيسة سيدة النجاة واغتيال رئيس الحكومة السابق رشيد كرامي ورئيس حزب الوطنيين الأحرار داني شمعون. أطلق سراحه عبر عفو نيابيّ عام 2005 بعد خروج الجيش السوري من لبنان، وما زال حتى اليوم رئيسًا لحزب القوات اللبنانية وأحد أبرز قيادات 14 آذار واللاعبين في الساحة اللبنانية الداخلية.
ميشال عون هو قائد جيش سابق تولّى رئاسة الحكومة الانتقالية بعد انتهاء ولاية أمين الجميّل عام 1988 وتعذّر الاتفاق على رئيس جمهوريّة يخلفه، بعدها أعلن الحرب على سوريا ومعارضة اتفاق الطائف، وانتهت هذه الحرب بخروجه من لبنان في 13 تشرين الأول 1990 واستقراره في فرنسا، حيث سيبقى حتى العام 2005 وانسحاب الجيش السوري فعاد إلى بيروت وقاد التيّار الوطني الحر وثبّت نفسه الزعيم الأول في الشارع المسيحي حتى وصل إلى سدّة رئاسة الجمهورية عام 2016.
جبران باسيل هو صهر ميشال عون وتولّى عدة وزارات بعد فشله في حصد أي مقعدٍ نيابيّ، فكان يعرقل عون تأليف الحكومات قبل ضمان وجود صهره على أحد كراسيها، وبالتالي فإنّ جبران هو وريث سياسي تمكّن عام 2018 من حجز مقعد نيابيّ له نتيجة القانون الانتخابي الذي اعتبر أنه يسمح بأكبر تمثيل مسيحي.
سعد الدين الحريري هو رئيس حكومة سابق ونائب في البرلمان اللبناني، كان لاستشهاد أبيه الرئيس السابق رفيق الحريري عام 2005 السبب الأكبر -إن لم يكن الوحيد- لدخوله الساحة السياسية اللبنانية، فقاد ما عُرف باسم ثورة الأرز التي نتج عنها خروج الجيش السوري من لبنان واستفاد من تضامن اللبنانيين وتعاطفهم معه بعد مقتل أبيه ليكسب فريقه أكثرية نيابية ستستمرّ حتى انتخابات العام 2018.
تعرّض الحريري للعديد من الانتقادات منذ قدمَ إلى لبنان حيث رآه العديد غير مؤهّل لدخول معترك سياسي من الأعقد في العالم، هذا عدا الانتقادات التي طالته لجهة ضعف خطاباته ونطقه وبعض تصرفاته التي اعتبرها العديد صبيانية، بينما من أحسن الظنّ به كان يلوم مَن حوله من مستشارين وسياسيين لضعف أدائه وصورته.
إذًا، بالخلاصة، سعد الحريري أيضًا وريث سياسيّ لا يتصوّر المرء سيناريو آخر كان يمكّن الحريري من دخول الساحة السياسية اللبنانية غيره.
هناك العديد من السياسيين والزعماء الذين أتوا بعوامل شبيهة لهؤلاء، وهناك من أتى بعوامل أخرى كحزب الله مثلً.ا ولا يسع المقال ذكرهم ولكن يفترض أن تكون قد وصلت الفكرة.
صعود أغلب هؤلاء الزعماء جاء بعوامل إمّا داخلية أو خارجية أو بصدف تاريخيّة، فرسموا مرحلة ما بعد الحرب عمومًا وما بعد انسحاب الجيش السوري خصوصًا، معلنين بدءَ صراع 8-14 آذار الذي استمرّ حتى تعيين ميشال عون رئيسًا للجمهورية حين بدأت تظهر الفروقات الكبرى بين أقطاب الآذارَيْن وتقارب خصوم الأمس السياسي أكثر. تغذّى كلا الطرفين على العديد من الأضداد، ففي بلد مقسّم طائفيًا ما زال غالبية من شهدوا الحرب أحياءً فيه يسهل إيجاد الفرص التي يستطيع الزعيم اقتناصها، فعمدوا منذ تولّيهم السلطة لتكريس مبدأ الزبائنية والطائفية والحاجة لـ”زعيم طائفة” كي لا تضيع حقوقهم.
نعم، في لبنان 18 طائفة تخاف على وجودها، وتنظر كل طائفة للـ17 طائفة الأخرى على أنها عدوّ يتآمرعليها. فمع زعماء طوائف يعرفون من أين تؤكل الكتف، استطاعوا حكم البلد وتقاسمه على مدار السنوات بإدارة حتى هم يعترفون بأنها مليئةٌ بالفساد والسرقة والمحسوبيات. ولكن ماذا كان عليهم أن يفعلوا؟ هم وصلوا لكراسيهم لأنّهم كانوا يشبهون الشعب، أمّا وقد وصلوا وفشلوا، فإنّ الطريقة الوحيدة ليكملوا مسيرتهم هي بأن يضمنوا بقاء الشعب على ما هو عليه لأنّهم فقط بهذا يستطيعون الاستمرار.
من العناوين المضحكة في لبنان عنوان “إزالة الطائفية من النفوس قبل النصوص”، وهي من أبرز الأدلة على تمسّك أركان السلطة بنموذج لبنان الطائفي. قد يبدو عنوانًا برّاقًا ولكنّه بمثابة دسّ السمّ بالعسل، فهم لا يريدون التخلّص من الطائفية من النفوس ولا يسعون إليها، فهي اكسيرهم، صمّامهم الرئيسي وقلبهم النابض.
في ألمانيا، وحتى اليوم، توجد تفرقة في نفوس البعض بين من هم من ألمانيا الشرقية ومن هم من الغربية، ولكن لا يجرؤ أحدهم على التصرف بأحد أنواع التفرقة، فهناك قانون يعاقب مرتكبيها. وفي الولايات المتحدة ما زال ذوو البشرة السوداء يتعرضون لشتى أنواع العنصرية، ومع ذلك وحتى مع كثرة هذه الأفعال إلّا أنّ هناك قانونًا يجرّمها. أما في لبنان فقد قونَنوا الطائفية وجعلوا من يجرؤ على ارتكاب فعل مناقض للطائفية هو من يعاقب، إذ أطلقوا عليها تسميات شبيهة بالميثاقية والتوازن والمناصفة وضمان حقوق الطوائف وغيرها. تعيينات طائفية من أكبر وحتى أصغر منصب في الدولة، محاصصات مناطقية ومشاريع لا تنفّذ إلّا عندما تنال كل طائفة حصتها، فبات مصطلح “حقوق الطائفة” يعني حصة زعيم الطائفة من السرقة فقط لا غير.
هل يمثّل الزعماء الحاليون الشعب بتخوّفاته وهواجسه؟ نعم، بطموحاته وأحلامه لا. ولا يستطيع أحد إنكار تغيّر المزاج العام عند جيل الشباب بالأخصّ الذي كان نبض التحركات الشعبية في السنتين الأخيرتين، والذي حمل بغالبه عناوين طلبات محقّة تلبّي طموحه. وهذا كان له عوامل عديدة، ففي أواخر الثمانينيات، مثلًا، نشأ جيلٌ مسيحي لم يرَ مسلم في حياته ونشأ جيلٌ مسلم لم يقابل مسيحيًّا في حياته، فمن كان عمره سبع سنوات في الـ1975 صار عمره عشرين عام 1988 والعديد منهم لم يرَ الآخر بل سمع عنه كلامًا اختصاره أنّ الآخر هو عدوّك ويريد قتلك. جيل اليوم نشأ في مدارس وجامعات مختلطة وعمل مع كل الأطياف وقابل وزار جميع المناطق وتواصل معهم منذ صغره عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فعرف أنّ ما يجمعه مع الآخرين هو كلّ شيء سوى القليل وليس العكس كما كان قد أشيع، ولم يعُد سهلًا إقناعه بأنّ الآخر يريد إيذاءه، فهو بات يعرف الآخر. هذا عدا عن إحاطته بأغلب مجتمعات وشعوب العالم الذين بات يرى نفسه متأخرًا عنهم ويطمح أن يصبح مواطنًا في دولة يتمتّع بحقوق وواجبات ومستوى معيشي لائق، وهذا جلّ ما يفتقده في لبنان.
هل ما زال جزء كبير من الشعب يدعم الأحزاب ويعتبرها تمثله؟ طبعًا. ولكنها لم تعد نفس العلاقة كما كانت من قبل. وهنا نعود إلى سؤالنا الأول: هل اللبناني مسيّر أم مخيّر؟ فنصل إلى الجواب التالي: كان مخيّرًا لحظة وصول الزعماء إلى كراسيهم، حيث كل الزعماء كانوا في وقتٍ من الأوقات يحظون بدعم أغلب جماعاتهم، أمّا اليوم، وكوسيلةٍ للبقاء في مناصبهم، فقد تمّ ترسيخ المفاهيم والتقاليد والعادات والهواجس والمخاوف والحاجات نفسها كي يبقى الولاء دومًا للزعيم. فما كان بالماضي نتيجةً لغياب الدولة، باتَ اليوم سببَ غيابها.