طارق مرعي* – خاص الناشر |
“دخل البيت وسلم على الجميع بمن فيهم العائلة، وجلسنا حول مائدة الطعام التي دعوته إليها ومعه أهم الشباب الذين شاركوا في تحرير حلب، وكان قد مضى على أول لقاء بيننا أكثر من عامين. خلال الطعام الذي حضره أيضًا أفراد من عائلتي، سألني السيد ممازحًا: ما رأيك بالشباب؟ هل يقومون بدورهم بشكل جيد؟ فضحك الجميع وضحكت وقلت له يا سيد ليس هناك أفضل من هكذا رجال، بل لم أكن أتوقع أن هذا النوع من البشر موجود، فقال لي طبيعي يا حاج، فهؤلاء هم طليعة الحرس الثوري. هنا صعقت. نعم؟! الحرس؟ الثوري؟ سيد هل أنت جاد فيما تقول؟ البقية ينظرون إليّ باستغراب وأنا أتابع حديثي؛ يعني إيران أرسلت لنا الحرس الثوري؟ أفضل قوات لديها، لتساعدنا في تحرير مناطقنا!. لم أتمالك نفسي، وليس من عادتي أن أبكي. لكن داخلي انقلب وسكتت ولم أعرف ماذا أقول. قبل أشهر كان هؤلاء أنفسهم يحفرون معنا الخنادق، ننام في نفس الدشم، ونتقاسم الطعام والشراب والعتاد والمهام، لكن لم أتوقع أنهم من ضباط الحرس الثوري. نعرف أنهم من إيران، لكن لا علامات ولا رتب ولا يتعاملون مع بعضهم بعضًا مثل الجيش الكلاسيكي، فلا تعرف منهم مَن الأهم أو الأكثر تأثيرًا، وليس هناك ما يشير إلى اسم تشكيلهم أو القوة التي جاؤوا منها. إنه السيد جواد، هكذا كنا نناديه، وهكذا عرفت من هؤلاء العاملين الصامتين أنهم من الحرس الثوري”. هكذا يروي أحد المقاتلين في حلب.
منذ أيام، وبعد مرور عشر سنوات على هذه القصة، بدأت تنتشر صوره لأول مرة على حسابات التواصل الاجتماعي، بكاميرا هواتف الشباب والمقاتلين، نبل والزهراء، السفيرة، عزان… نعم إنه يودع المدينة التي أحبها وقضى فيها أحلك السنوات حتى طلع فجرها، يودع المقاتلين والأصدقاء والناس والعشائر التي أعطاها الكثير من وقته. ثم بعد حلب تجول في باقي المناطق بهدوء ودون ضوضاء وصحافة، وهو صاحب أهم الانجازات العسكرية وأصعبها في الحرب الكونية علي سوريا.
انضم السيد جواد إلى عدد من ضباط الحرس الثوري القادمين من إيران إلى سوريا، بقيادة قاسم سليماني. فقد كان في المنطقة منذ أكثر من ١٠ سنوات، كان يتقن اللغة العربية وحافظًا للقرآن الكريم. شكّل مع رفاقه قوة أساسية من المتطوعين من الناس، وخاضوا إلى جانب القوات السورية عشرات المعارك والتحديات، بعضها كان مستحيلًا وبعضها كان سهلًا، وفي مكان آخر جمعت بين الظفر وذكرى أليمة لرجالات غادروا في الخطوط الأمامية، في معركة كان اتجاهها الجغرافي أحيانًا صعب التشخيص، وشاركت فيها عشرات الدول بالمال أو القوات أو الخبرات والدعم. الجنرال الله دادي اغتالته المروحيات الاسرائيلية مع جهاد مغنية والحاج أبو عيسى ورفاقهم على حدود الجولان (2015/1/18)، الجنرال حسين همداني، القائد الذي سبقه في قيادة القوات الإيرانية في سوريا استشهد على طريق اثريا خناصر باتجاه حلب (2015/10/7)، وكذلك السيد مصطفى بدر الدين (2016/3/13)، والحاج علاء البوسنة علي فياض، وأبو محمد الإقليم حسن محمد الحاج، وكذلك الحاج أبو حامد علي رضا توسلي من لواء الفاطميين، وغيرهم الكثيرون إلى جانب التضحيات التي لا تحصى لسوريا وجيشها وشعبها.
هذه المعركة الفريدة من نوعها في محور المقاومة خلال العقود الأخيرة، كانت من نصيب سوريا البلد الذي وصل إلى حافة الانهيار، وحددت له المهلة ثلاثة أشهر، وثم مُددت عشرات المرات وأصبحت بالسنوات، اجتمع فيها السيد جواد مع القوات القادمة من لبنان بقيادة السيد ذو الفقار، فعملا معًا لسنوات في كل مناطق سوريا، منذ المراحل الحساسة الأولى في عمليات كانت التجربة الأولى في تاريخ الصراع في المنطقة؛ فقد اجتمع رجال الإمام الخميني المتواجدون في المنطقة منذ عام ١٩٨٢ مع كل المقاتلين الذي أعدوا أنفسهم لقتال إسرائيل في معركة وفتنة داخلية تم التحضير لها قبل حوالي ١٠ سنوات، لتؤخر الاصطدام الكبير مع العدو الصهيوني وتضعف المقاومة التي لم يعد هناك من أسلوب للقضاء عليها، خاصة مع تعاظم قوة سوريا عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، فوقفوا مقابل غرف عمليات لا تحصى وعشرات المؤسسات الإعلامية والمنصات التي نذرت نفسها للنصر الواهم الذي لم يتحقق منه إلا الخراب والتكاليف الهائلة.
بعد استقرار النظام في سوريا واستعادة غالبية الأراضي والمدن الرئيسية والتسوية في الجنوب والتحضيرات للشمال الذي ما زالت تركيا تعاند طامعة في التوسع فيه، وبعد الضعف الأميركي في المنطقة الواضح خاصة بعد الخروج من أفغانستان (31 آب 2021). وبالإضافة إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز فيها الرئيس بشار بولاية رابعة في أيار ٢٠٢١، كانت سوريا كلها أشبه بمهرجان نصر، فظهر الناس في الاحتفالات بشكل غير متوقع بعد سنوات من الحرب ليطلقوا موقفهم السياسي قبل رأيهم الانتخابي. بعد هذه الأحداث المهمة، بدا المشهد في سوريا مختلفًا، بلد يصر على إعادة الحياة إليه كما فعلها بالسابق، ونهض بالبلد لينافس أهم اقتصادات المنطقة، معتمدًا الاكتفاء الذاتي والسواعد المحلية، ومتحديًا قانون سيزار والحصار الاقتصادي العالمي.
سبق هذه الأحداث السياسية والأمنية المهمة تقدم في الميدان كان آخره عملية مدينة سراقب والطريق الدولي M5 بين حلب ودمشق بعد ٦ سنوات على انقطاعها. وتبع ذلك عودة عدد من الضباط الايرانيين إلى بلادهم. كما تم في هذه الفترة افتتاح قنصلية حلب التي كان قد وقع مرسوم افتتاحها عام ١٩٩٥ ولكنه لم ينفذ حتى عام ٢٠٢١ وتم نقل الكثير من النشاطات والفعاليات العامة والانسانية من القيادة العسكرية، لتصبح بيد المؤسسات المدنية الرسمية التابعة لها، لترفع الثقل عن كاهل قوة القدس التي كانت تعمل لأسباب عسكرية بطلب وقرار مشترك بين ايران وسوريا والذي حصل في عدة اتفاقيات تكللت بحضور القائد العام للقوات المسلحة في ايران اللواء باقري عام ٢٠١٧ بعد استقرار سوريا والتنسيق بأعلى مستوى مع القيادة العامة السورية.
اليوم، بعد كل هذه الاستحقاقات تجاوزت سوريا الأزمة، والذين ساهموا في دمارها، اليوم يعترفون بالهزيمة وبعض من ساهموا بكل ما لديهم في تدمير سوريا يتسابقون لإعادة العلاقات الدبلوماسية ويقدمون المقترحات والمشاريع لإعادة إعمارها.
وكما كان الحضور الايراني في لبنان عام ١٩٨٢ منذ أول الايام الاولى للاعتداء الاسرائيلي وسقوط العاصمة بيروت، بقرار من الامام الخميني بالعودة إلى إيران والبقاء بمستوى تمثيلي استشاري ودعم اللبنانيين في مقاومة الإحتلال، وأن لبنان سيحرره اللبنانيون، وهذا ما حصل فعلاً، لا نرى في لبنان أي آثار للحرس الثوري على مستوى التغيير الثقافي والاجتماعي، كذلك حصل في العراق وخرج الأميركي، وكذلك في سوريا ويحصل الآن في اليمن، وهكذا سيكون المشهد في فلسطين قريبًا.
اليوم، يعود الجواد الشجاع “جواد غفاري” قائد قوة القدس في سوريا إلى إيران منجزاً المهمة، ولكن من دون استقبال الحاج قاسم الذي أنجز أيضًا كل مهامه وغادر، بعد فشل أكبر حملة عالمية على محور المقاومة، الحملة التي كلفت العالم مئات المليارات ولكن أمن إسرائيل أصبح مستحيلًا وإيران أقرب إلى حدود فلسطين، وحلفاؤها أكثر خبرة وقدرة.
*كاتب سوري.