عندما تأسست جامعة الدّول العربيّة وأعلنت ميثاقها عام 1945 أوردت جملةً من الأهداف التّي تنوي تحقيقها، وذلك أمام عجز دولها عن مواجهة الأخطار التّي تتهدّدها منفردةً، وكان أبرز هذه الأهداف أو الخطوات توثيق الصّلات بين الدّول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السّياسيّة، تحقيقًا للتّعاون بينها وصيانةً لاستقلالها وسيادتها، والنّظر بصفةٍ عامّةٍ في شؤون البلاد العربيّة ومصالحها ، وإن لم يذكر ميثاق الجامعة حفظ الأمن القوميّ، إلاّ أنّه ذكر في المادة السادسة، أنّه “إذا وقع اعتداءٌ من دولةٍ على دولة، من أعضاء الجامعة، أو خشي وقوعه فللدّولة المعتدى عليها، أو المهدّدة بالاعتداء، أن تطلب دعوة المجلس للانعقاد فورًا.
أولًا: الأمن القوميّ العربيّ في ميثاق الجامعة
“يُقرّر مجلس الجامعة التّدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء، ويصدر القرار بالإجماع”. وعلى الرغم من أنّ الميثاق تحدّث في هذه المادة عن اتّخاذ القرار في أي اعتداءٍ يقع على دولةٍ من دول الجامعة، إلا أنّه لم يُشكّل مصداقًا للدفاع عن هذه الدول، ولم يُحدّد الوسائل اللازمة لردع العدوان. لذلك وكما مرّ معنا، يمكن القول إنّ الأمن القوميّ العربيّ هو قدرة الدّول العربيّة وإرادتها مجتمعةً على حماية بعضها بعضًا والدفاع عن أيّة دولةٍ تتعرض لاعتداء وإنشاء منظومةٍ متكاملةٍ للمحافظة على الثّروات العربيّة. ولقد شكّلت أحداث المنطقة العربيّة، وعلى رأسها نكبة 1948 حالة صدمةٍ للدول العربيّة، جعلت قياداتها تُدرك أهميّة العمل المشترك للدفاع عن نفسها أمام التّهديد الإسرائيليّ، ما حدا بها إلى إعلان معاهدةٍ تُعتبر متمّمةً لميثاق جامعة الدّول العربيّة، لمواجهة الأخطار التّي تُهدّد الأمن القوميّ العربيّ، عُرفت بمعاهدة الدّفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدّول العربيّة 1950.
وتُقرّر المادة الثّانية من الاتفاقية أنّ “الدّول المتعاقدة تعتبر كلّ اعتداءٍ مسلّحٍ يقع على أيّة دولةٍ أو أكثر منها أو على قوّاتها، اعتداءٌ عليها جميعًا. ولذلك فإنّها عملًا بحقّ الدّفاع الشّرعيّ – الفرديّ والجماعيّ – عن كيانها تلتزم بأن تُبادر إلى معونة الدّولة أو الدّول المعتدى عليها، وبأن تتّخذ على الفور، منفردة ًومجتمعةً، جميع التّدابير وتستخدم جميع ما لديها من وسائل، بما في ذلك استخدام القوّة المسلّحة لردّ الاعتداء ولإعادة الأمن والسّلام إلى نصابها”.
وقرّرت المعاهدة في المادة الخامسة أن “تُؤلَّف لجنةٌ عسّكريّةٌ دائمةٌ من ممثلي هيئة أركان حرب جيوش الدّول المتعاقدة لتنظيم خطط الدّفاع المشترك، وتهيئة وسائله وأساليبه” . كما انبثقت من المعاهدة نفسها عدّة مؤسساتٍ وهيئاتٍ تنفيذيّةٍ، مثل مجلس الدّفاع المشترك، هذا فضلًا عن القيادة العامة الموّحدة للجيوش العربيّة التّي نشأت فيما بعد، بمقتضى قرارٍ من مؤتمر القمّة العربيّ عام 1964.
إنّ ما تحدثت عنه هذه المواد لم يُطبّق على أرض الواقع، وظلّت بندقية هذه الجيوش المتّفقة في مستودعات التّخزين، ولم يُبصر هذا التّعاون النّور، بدءًا من الاعتداء على مصر عام 1956 مرورًا بحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. وقد شهدت السّاحة العربيّة أربع جولاتٍ من الصراع العربيّ – الإسرائيليّ منذ الإعلان عن “إسرائيل” في أيار/ مايو 1948 وحتى حرب تشرين الأول/ اكتوبر 1973. ومرّت الأمّة بالكثير من الأحداث أيضًا، مع اجتياح لبنان 1982 وصولًا إلى اجتياح العراق للكويت عام 1990، ومن ثمّ الحرب الأميركيّة الأولى على العراق 1991. وقد شكّلت الأزمة العراقيّة – الكويتيّة شاهدًا على عدم قدرة الجامعة العربيّة على التّعاطي بفعاليةٍ مع القضايا المتفجرة وفي مقدّمتها قضايا الحدود السّياسيّة .
ما كشفته هذه الحرب، هو أنّ “نظام الأمن القوميّ العربيّ، الذّي حاولت جامعة الدّول العربيّة إقامته، منذ عام 1945 حتى 1990، لم يُحقّق المُرتجى منه، إذ كان هذا النّظام مثاليًا في النّصوص والمواثيق. لكنه، من النّاحية العمليّة، لم يكن رادعًا للعدوان، الأمر الذّي دعا إلى إعادة النّظر في مبادئ الجامعة، حيث اتّخذ مجلس الجامعة العربيّة، في دورته التّي انعقدت على مستوى وزراء الخارجية في ايلول/ سبتمبر 1992، القرار 5215، الذي كلّف بموجبه الأمانة العامّة إعداد دوراتٍ شاملةٍ عن الأمن القوميّ العربيّ” . بعد ذلك تمّ إعداد ورقة عملٍ حوله، لمناقشتها في مجلس الجامعة العربيّة، وحدّدت الورقة ذلك المفهوم بأنّه “قدرة الأمّة العربيّة على الدّفاع عن أمنها، وصياغة استقلالها، وسيادتها على أراضيها، وتنمية القدرات في مختلف المجالات السّياسيّة، والاقتصاديّة، والثّقافيّة، مستندةً إلى القدرة العسّكريّة والدّبلوماسيّة، آخذةً في الاعتبار الاحتياجات الأمنيّة الوطنيّة لكلّ دولةٍ، والمتغيّرات الدّاخليّة والإقليميّة والدّوليّة، والتّي تؤثّر في الأمن القوميّ العربيّ”، لكن هذه الدّراسة لم تُعرض على مجلس الجامعة، وعبّر العديد من الباحثين عن قصور “المفهوم” الذّي توصلت إليه اللّجنة .
ثانيًا: محطات الإخفاق وصولًا إلى الأزمة السورية
لم تنته الإخفاقات بعد حرب الخليج الأولى، بل استمرت بعد العدوانين الإسرائيليين على لبنان في تموز/يوليو 1993 ومن ثم نيسان/أبريل 1996، أيضًا سجل العجز العربي في حفظ الأمن القومي مرة جديدة أمام الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
بدت الدول العربية مجددًا عاجزةً عن التحرك لردع العدوان، بل إن هناك دولًا اشتركت مع التحالف الأميركي في غزو العراق وسهلت له هذه المهمة من خلال قواعده المنتشرة في الخليج، “وبدلًا من أن تكون قمة شرم الشيخ التي انعقدت في 1/3/2003 لبحث الوضع العراقي وكشف ما تقوم به واشنطن، فإنها كانت مكانًا لعرض التشرذم العربي وعجز العرب عن الحفاظ على الأمن القومي العربي .
وقد بدأت قضية انتشار الإرهاب في العالم العربي تتصاعد عقب الدخول الأميركي للعراق، وبدأ فصل جديد من التهديد للأمن القومي العربي مع ظهور تنظيم “القاعدة” في العراق.
وفي تموز/يوليو 2006 تفاقم التشرذم العربي، خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، تحت تصور أن القضاء على حزب الله اللبناني يحل الأزمات في الشرق الأوسط.
وتُعَدّ الحرب على لبنان، في العام 2006، إحدى الحروب بالوكالة عن الولايات المتحدة الأميركية، وكان هدفها القضاء على المقاومة اللبنانية. والواقع أن عملية “إسرائيل” العسكرية في لبنان تعد الخطوة الأساسية لتحقيق فكرة الولايات المتحدة الأميركية عن قيام شرق أوسط جديد، تكون فيه “إسرائيل” هي المركز السياسي والاقتصادي. وبمعنى آخر، إن أحد أهداف هذا المشروع هو تحقيق أولوية أمن “إسرائيل” في مقابل تراجع مفهوم الأمن العربي وتشرذم الدول العربية. لقد شكلت رسالة للدول العربية للانكفاء نحو حماية كل دولة لأمنها فقط دون التعاون في حفظ الأمن القومي العربي .
وقد تفاعلت قضية تراجع مفهوم الأمن القومي العربي، لتدخل في مرحلة جديدة أكثر خطورة، بعد “ثورات الربيع العربي” ومن ثم التدخل الأجنبي في ليبيا، ومن بعدها الأزمة السورية، وإعلان تنظيم “داعش” عن دولته، والتي شكلت مرحلة انعدام الأمن القومي العربي، وشكلت تراجعًا لدور جامعة الدول العربية التي لم تستطع إيجاد حلول لهذا النزاع، بل اتخذت قرارات فاقمته ما ساهم بتنامي حدته وساعد في انتشار وتقوية الجماعات الإرهابية، بدل أن تعمل على إرساء السلام في سورية والحفاظ على أمنها وسيادتها وكيانها الذي كان أمام خطر التقسيم إلى دويلات.
لقد ساعدت جامعة الدول العربية بشكل أو بآخر على تأجيج النار الكبرى في سوريا بدلًا من إخمادها، لا سيما بعد أن قامت بتعليق عضوية دمشق في الجامعة خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في12 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، ودعت إلى سحب السفراء العرب بحجة تنفيذ مبادرتها لحل الأزمة في سوريا، وذلك بشكل يخالف ميثاقها، حيث إن سوريا لم تخالف واجباتها التي تحرمها عضويتها كما تنص المادة الثامنة عشرة من الميثاق، لا بل إن الجامعة لم تحترم ما نص عليه الميثاق في المادة الثامنة منه والتي تقول “تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقًا من حقوق تلك الدول، وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمى إلى تغيير ذلك النظام فيها”. ولم تستطع الجامعة أن تمنع التحريض على سوريا من بعض الدول العربية الأخرى المتهمة بتمويل وتسليح قوى المعارضة.
الخاتمة
تعود الدول العربية اليوم إلى سوريا، حيث افتتح الأردن ومن ثم الإمارات عودة هذه العلاقات مع الدولة السورية، ويعود الحديث الجدي عن عودة سوريا إلى الجامعة العربية، لكن ذلك يحمّل الدول العربية مسؤولية ضرورة التغيير داخلها.
هذه الجامعة التي تآمرت على سوريا في أوج الحرب مع الإرهاب والأزمة التي عصفت بها، لا بد أن تعيد قراءة ميثاقها وبناءها للتغيير وإلا لن تصل إلى أن تصبح جامعة حاضنة لكل العرب وقضاياهم، خاصةً أننا نرى في المقابل أن هناك أزمة عصفت بلبنان، وكيف اخترعت السعودية حجة غير مقنعة لكي تقطع علاقاتها معه وتحاصره على المستوى السياسي والاقتصادي في ظل ما يعانيه هذا البلد وشعبه من أزمات.
وعلى الرغم من زيارة وفد الجامعة إلى لبنان برئاسة الأمين العام المساعد للجامعة العربية حسام زكي الذي لم يحمل معه حلولًا جديةً للأزمة، بل كرر مطالب قديمة باستقالة وزير لبناني واعتذار لبنان، وهذا ما يظهر أن الجامعة حتى الآن لا تزال خاضعة إلى أموال بعض الدول العربية وإملاءاتها، وهذا الأمر يضعفها ويجعلها غير قادرة على جمع بلدانها، وحماية دولها من أي اعتداء، بل إن التشرذم لا يزال قائمًا فيها، فإن عدم التغيير لن يؤدي إلى مستقبل مستقر للجامعة ودولها.
المراجع
- ميثاق جامعة الدول العربية، المادة الثانية.
- معاهدة الدفاع العربي المشترك، المادة 2.
- الفقرة الأولى، المادة الثانية، المصدر نفسه، معاهدة الدفاع العربي المشترك.
- علي الدين هلال؛ نيفين مسعد، النظم السياسية العربية: قضايا الاستمرار والتغيير، الطبعة الثانية، بيروت، مركز دراسات الشرق الأوسط، 2002، ص 50.
- مفيد محمود شهاب، نحو مفهوم للأمن القومي العربي، الطبعة الثالثة، بيروت، مركز الدراسات العربي الأوروبي، 1997، ص 523.
- جميل عفيفي، مصر وليبيا والأمن القومي، الأهرام، السنة 141، العدد 47558،20 شباط/فبراير 2017.
- ظافر حسن، الأمن القومي العربي أمام المتغيرات الدولية، الطبعة الأولى، بيروت، المركز الثقافي الإسلامي، 2005، ص 225.
- مرسي عطاالله، حرب الهروب من قيود السلام. جريدة الأهرام، السنة 130، العدد 43697، في 27 تموز 2006.
نسخة PDF