الإماراتيّ في دمشق: العودة إلى الشام

حطّت طائرة وزير الخارجية الإماراتي في دمشق، ومعها قامت الأصوات التي تبحث عمّا تدين به سوريا، أو تتهمها. تحوّل جميع أهل التطبيع والانبطاح للخليج إلى محاضرين فصيحين في عفة الأوطان. منهم من اعتبر أن استقبال دمشق لوزير خارجية دولة مطبّعة هو تأمين غطاء للتطبيع -ورد هذا التحليل بشكل جدّي، رغم وضوح كونه أقرب إلى السذاجة في مقاربة الأمور، ونقول سذاجة على سبيل التمسّك بحسن الظنّ- فيما ذهب بعض آخر إلى معايرة سوريا بكونها استقبلت من كان يشهر ضدها سيف المواقف المعادية والإرهاب. وهذا التحليل هو الآخر -وبكلّ ما يحمله من تغابٍ واستغباء وجهل بأبسط قواعد العلاقات الدولية وموازين القوى ووعي المنتصِر- ورد بشكل جدّي أيضًا.

وبين التحليلين المسيئَين بالدرجة الأولى إلى مرتكبيهما وكلّ من شاركهما في تبنّي هذا الاستخفاف السافر بالعقول، كانت أخبار الزيارة تربك “زعامات” لبنانية تعادي سوريا وتشدّ ظهرها بالخليج عمومًا، وبالسعودية وبالإمارات بشكل خاص.

في الواقع، لا يحق للأداة أن تبدي رأيًا في حركة المشغّل. وارتباط هذه الزعامات بالخليج هو ارتباط لحظوي فرضته حاجة الخليج في مرحلة ما -وهي مرحلة لم تنته بعد- إلى خلق عداوات لدمشق في لبنان، وسهّلته طبيعة هذه الأدوات الزعماتية التي تنبطح عند أعتاب سفارة من يموّل أكثر.

المضحك في الأمر أنّ المصابين بهذا الارتباك حاولوا المكابرة رغم ذهولهم. وهو ما يثبت فقدهم لأبسط قواعد المنطق في مقاربة الأحداث والمواقف.

في البداية، ما جعل سوريا تقف اليوم في موقع من يوافق أو يرفض طلبات الزيارة من سائر من سعوا إلى طردها يومًا من جامعة الدول العربية، ليس صحوة ضمير أصابت الحسّ القومي لدى مريدي الزيارة، ما جعلهم يصطفون سرًّا وعلانية لطلب موعد من الرئيس بشار الأسد، مرفقين طلبهم بالشعر القومي وبالشعارات الطنانة. هو صمود سوريا ووجودها في موقع المنتصر. وبالتالي، يحق للمنتصر أن يرتّب علاقاته الدولية بحسب شروطه. ومن هذا المنظار، لا يمكن للحديث التحليلي الذي صنّف استقبال سوريا لوزير الخارجية الإماراتي خضوعًا منها لأي شرط “خليجيّ” أن يمرّ في بال عاقل ناطق.

ثانيًا، وعلى رغم تفاهة وخبث التسويق لفكرة أنّ التقارب السوري-الإماراتي سيؤدي حكمًا إلى تخلّي سوريا عن المقاومة في لبنان، يجب التحلّي ببعض الصبر في الردّ على الفكرة بشكل يلقّن بعض المعلومات لمن يدّعي جهلًا أو يكرّر ببغائيًا ما سمعه ممّن يعادون المقاومة أصلًا، وممّن يمكن اختصار مشكلتهم مع دمشق بكونها تدعم المقاومة.

في زمان ليس ببعيد، لو شاءت سوريا التراجع عن دعمها للمقاومة، لوفّرت على نفسها حربًا امتدت على معظم مساحتها عقابًا لها على تمسكها بالمقاومة، ولو رضيت بالتخلّي، لكسبت من حبّ العربان ما يفوق بأضعاف مضاعفة ما أنفقه هؤلاء في لبنان على كلّ مرتزق ارتضى معاداة سوريا.

قليل من الموضوعية، وبعض القراءة في الأحداث وفي التاريخ القريب، وبعض المعرفة بسوريا وقيادتها وأهلها، كانت ستجنّب أصحاب هذا التحليل اقتران تحليلاتهم بالجهل وبالغباء، وبأشياء أخرى.

على مستوى آخر، وبمشهد أكثر اتساعًا، أثبت كلّ من “نطّوا وما حطّوا” منذ وصول وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق، أنّهم يعانون من الأمية المدفوعة الأجر. فهم لا يجيدون تهجئة حروف الأحداث التي تجري في المنطقة والعالم، والطامة الكبرى أنّهم يصرحون بجهلهم هذا دون خجل ودون إبداء أي رغبة بالتعلّم؛ فحين ينظرون إلى المساعي السعودية للتقرب من كلّ من إيران وسوريا، وبدلًا من الالتحاق بها كونها المموّل والمشغّل والعقل المدبّر لسائر حركتهم، يقفزون إلى اتهام كلّ من إيران وسوريا بالتقرب من السعودية، ويصرّون أكثر فأكثر على القطيعة مع الدولة الشقيقة، حتى على حساب المصلحة الوطنية والحيوية للبنان، بداعي الخضوع للتعليمة السعودية التي لم تسمح لهم بعد بكسر القطيعة، ولا يكلفون أنفسهم عناء مساءلة معلّميهم عن سرّ منعهم من الاقتراب من دمشق، فيما يزحف هؤلاء المعلّمون نحو أعتاب الأسد.

تحليلات كثيرة رافقت الزيارة الحدث. وإن كانت هذه التحليلات لم تزد على سقوط مطلقيها إلا سقوطًا، فهي تشكّل دليلًا إضافيًا على تورّط هؤلاء في ما هو أبعد من الخيار السياسي المعادي لسوريا، ويثبت وجودهم في خانة المرتزقة الذين لا يحق لهم حتى تقليد مموّلهم المباشر أو غير المباشر.

الجميل دائمًا أن بقيت سوريا، وأجبرت من حاول “تطييرها” عن خارطة محور المقاومة، على العودة إليها وهي قلب المحور، سواء فهم الأدوات ذلك، أم عجزوا.

اساسيالاماراتبشار الاسددمشقسوريا