حتى اليوم، لا يمكن لأي متابع سياسي أن يستوعب كل الإجراءات التي اتخذتها المملكة العربية السعودية تجاه لبنان، على إثر تصريح وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي الذي أدلى به قبل أن يصل إلى المقعد الوزاري. لا يمكن لأي متابع للسياسة أن يتفهم قطع المملكة كل علاقاتها الديبلوماسية مع لبنان ووقف كل تعاملاتها معه، على إثر تصريح قرداحي حول حرب اليمن واصفًا إياها بالعبثية، خصوصًا أن وزير الإعلام اللبناني لم يكن أول من استعمل هذا المصطلح.
فقبل أربعة أعوامٍ تحديدٍا، استبق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش العالم داعيًا إلى إنهاء “الحرب العبثية” في اليمن كما وصفها، معربًا عن أمله بأن تضغط الإدارة الأميركية على السعودية لتخفيف الأزمة الإنسانية التي تعصف باليمنيين. غوتيريش يومها وفي تصريح لمحطة سي إن إن قال بالحرف: “أعتقد أنها حرب عبثية.. أعتقد أنها حرب ضد مصالح السعودية والإمارات وشعب اليمن.. ما نحتاج إليه هو حل سياسي”، فما الفرق بين ما قاله غوتيريش وما أدلى به قرداحي؟
لا ينتهي الأمر هنا، فالشريكة الاستراتيجية للمملكة أي الإمارات العربية المتحدة، غسلت يدها من حرب اليمن، لاعتقادها أن لا فائدة من الاستمرار فيها. حتى باقي دول مجلس التعاون الخليجي التي شاركت مع انطلاق الحرب بشكل لوجيستي أو استخباراتي أو شكليٍّ حتّى، تراجعت عن دورها. حتى الولايات المتحدة الأميركية أيضاً ومع وصول الرئيس جو بايدن الى سدة الرئاسة، أعلنت عن ثلاثة قرارات متعلقة بسياسة أميركا إزاء حرب اليمن وأبرزها إنهاء الدعم الأميركي لكافة العمليات العسكرية الهجومية وما يتعلق بها من صفقات تسليح، ودعم جهود الأمم المتحدة لحلّ النزاع، وتعيين تيم لندركينج مبعوثًا خاصًا لليمن. هذه القرارات كانت بمثابة تبرّؤٍ أميركيّ من حرب اليمن، الى أن باتت السعودية وحيدةً في هذه المعركة، فماذا تريد المملكة؟
بالعودة إلى الإجراءات السعودية تجاه لبنان، وبعد أسئلة الاستغراب التي أحاطت بها حول ما إذا كان تصريح قرداحي يستأهل كل هذا الرد، خرج وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان مؤكدًا أن الأزمة مع لبنان أكبر من تصريحات وزير واحد، عازيًا السبب الحقيقي الى وجود حزب الله كذراعٍ من أذرع إيران في المنطقة، ما يعني أن مشكلة السعودية ليست مع لبنان إنما مع إيران، لكن، هل سلوك المملكة تجاه ايران في المنطقة يؤكد على ذلك، أمْ ماذا تريد المملكة؟
بإيجازٍ سريع لمشهد المنطقة، يرى مراقبون أن الحرب على سوريا والتي شاركت بها السعودية للإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد، كانت أيضًا حربًا عبثية، فالمملكة اليوم وبعد ١٠ سنوات من الحرب، تعيد ترتيب العلاقات من جديد مع سوريا، وهي بطور إنهاء الإجراءات اللوجستية لإعادة فتح سفارتها في دمشق، العاصمة التي تعتبر الأكثر قربًا من طهران. لم تكتفِ المملكة بذلك، فهي تعمل مع جامعة الدول العربية لإعادة سوريا إليها. فماذا تريد المملكة؟
كذلك كان المشهد المرافق للإجراءات التي قادتها المملكة مع دول مجلس التعاون الخليجي تجاه قطر، لما كان للدوحة من علاقات عميقة ربطتها بطهران، عادت السعودية وتراجعت عنها، بعد أن تعززت العلاقات القطرية- الإيرانية الديبلوماسية والاقتصادية، حين كانت إيران المنفذ الوحيد لقطر خلال سنوات الحصار، فماذا تريد المملكة؟
لا يختلف المشهد في اليمن، الذي يشهد حاليًا تقدمًا للحوثيين على مختلف الجبهات، في حين تجد المملكة نفسها وحيدةً في هذه المعركة، ما يعني تسليم اليمن لإيران، بعد أن كان للحوثيين دورٌ محدود، أصبح اليوم على تخوم الحدود السعوديّة، فماذا تريد المملكة؟
في لبنان، الأمر كان أكثر تعقيدًا، إذ إن سياسة المملكة تجاه هذا البلد أفضت إلى فراغٍ ملأه حزب الله، بعد أن اتخذت السعودية عدّة إجراءات أضعفت وجودها فيه، منذ احتجاز رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، وصولًا لعدم دعم أي رئيس حكومة منذ ذاك التاريخ. وإذا كان موقفها من الحريري مفهومًا، وموقفها من حكومة الرئيس السابق حسان دياب باعتبارها حكومة مواجهة مفهومًا أيضًا، لكن ما هو غير مفهوم أن تتخذ المملكة الموقف نفسه من حكومة الرئيس الحالي نجيب ميقاتي، وهو الذي حرص في بيانه الوزاري على التأكيد على العمق العربي للبنان، والدور المهم للسعودية ودول الخليج، ووضع في سُلَّم أولوياته إعادة العلاقات العربية مع لبنان الى سابق عهدها، ويُؤخذُ على هذا الرجل بيانات الدعم المستمرة للمملكة منذ تسلمه أول مرة منصب رئاسة الحكومة عام ٢٠٠٥، وحتى إن رآها فريق واسع في لبنان أنها منحازة للسعودية، فماذا تريد المملكة؟
وفق تصريحات وزير الخارجية السعودي، فإن الموقف الحالي من لبنان سببه هيمنة إيران عليه، وإذا كان هذا السبب الحقيقي، فمن الطبيعي هنا طرح أسئلة عدّة: أولاً، مَن تخلى عن لبنان حتى ملأت إيران مكانه الشاغر؟ ثانياً، إذا كان الموقف من لبنان سببه إيران، فلماذا لا يُطبّق هذا الموقف نفسه تجاه سوريا حليفة إيران الأولى في المنطقة؟ وكيف تفسِّر الرياض تقاربها المستجد مع دمشق؟ ثالثاً، ما رأي السعودية بالعلاقات الإماراتية الإيرانية، على اعتبار أن الإمارات أصبحت أكبر سوقٍ لإيران في الشرق الأوسط وهي تشهد الآن استثمارات تقدّر بمليارات الدولارات؟ ثالثاً، ماذا عن قرار المملكة نفسها السماح بدخول البضائع الإيرانية إلى أسواقها؟ أخيرًا والأهم، ماذا عن جلسات التفاوض التي تشهدها العاصمة العراقية بغداد بين السعودية من جهة وإيران من جهة أخرى؟ كل الأجواء تؤكد أن السعودية بصدد إعادة ترتيب العلاقة مع إيران، فماذا تريد المملكة؟
كل هذه الأسئلة المطروحة هنا، هي أسئلة قادة مجلس التعاون الخليج التي تنقلها مصادر عن الصالونات الكبرى، كما نقلتها عن قادة المجتمع الدولي الذي حضر في غلاسكو على هامش مؤتمر المناخ الذي عقد مؤخرًا.
في المقلب الآخر، ثمّة من يسأل ما إذا كانت سياسة تخلّي الولايات المتحدة الأميركية عن السعودية مؤشرًا لكل ما تقوم به المملكة، لا سيما وأن إدارة الرئيس جو بايدن، ترفض حتى اللحظة التواصل الرسمي معها. فماذا تريد المملكة؟
قد يكون خيار الرياض انتهاج هذه السياسة تجاه لبنان هدفه حرف الأنظار عن كثير من الملفات التي أخفقت المملكة بحساباتها، ليست المتعلقة بسياستها الخارجية فحسب، إنما تلك المتعلقة بقراراتٍ اتخذتها المملكة تجاه العديد من ملفاتها الداخلية وجعلتها تحت مجهر المحاسبة الدولية، وهي لا تعلم حتى اللحظة كيف تنقذ نفسها منها. بَيدَ أن اعتماد هذا الخيار تجاه لبنان ليس سوى سوء تصرّف جديد لن يبقي للمملكة هنا سوى بعض الانتهازيين الساعين للوصول الى المناصب عبر تسلّق التضامن مع الرياض.
وفي المحصّلة، إذا كانت المملكة ترى ما نقله الأمير بن فرحان عن أن المطلوب تغيير حقيقي، فالتغيير الحقيقي في لبنان لا يحصل سوى بالانتخابات النيابية، فهل إجراءاتها هذه تساعد على إجراء انتخابات في لبنان للوصول إلى تغيير ما؟ أم أنها تريد الدفع نحو فراغ حكومي وما قد يستتبعه من فوضى وصولًا إلى تطيير الانتخابات؟ فماذا تريد المملكة؟