“أنا محمد بن سلمان، المعروف اختصارًا بـ (إم. بي .إس)، عمري 36 ربيعًا. أنا ولي العهد السعودي، ومتهم باغتيال صحفي (جمال خاشقجي) وخطف زعيم أجنبي (سعد الحريري). أشن حربًا دموية في اليمن وأقمع كل من يعارضني. أعتبر متهورًا، ومع ذلك يتم استقبالي بحفاوة بالغة. تمتلك بلادي احتياطات نفطية هائلة. أنا الزبون الرئيسي لصناعات الأسلحة الغربية. أنا شريك أساسي في محاربة الإرهاب. أقوم بإصلاحات اقتصادية لتغيير بلادي. أنا حليفكم، لا يمكن الاستغناء عني، ولتغتنوا أيضًا بدوركم ولكن هذا الأمر بمقابل”
بهذا المونولوج المتخيّل لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بدأ المخرج الفرنسي المعروف “أنطوان فيتكين” فيلمه الوثائقي بعنوان “محمد بن سلمان أمير المملكة العربية السعودية”، الذي تناول فيه شخصية الشاب المتهور والمخادع والديكتاتور الذي يقود بلاده نحو الهاوية.
تولّى محمد بن سلمان ولاية العهد في السعودية عام ٢٠١٥، متخطيًا ولي العهد الشرعي الامير محمد بن نايف عبر أمرٍ ملكي أصدره والده سلمان بن عبد العزيز، وهو ما وصف حينها “بالانقلاب”.
حمل رؤيته الخاصة للمملكة وشعبها ودول المنطقة، محاولًا فرضها وفق مسارات متعددة، أبرزها الدعاية والترويج، عبر استئجاره شركات علاقات عامة في العديد من الدول، وتجنيد اعلاميين وسياسيين وفنانين وكتاب عرب، للترويج لرؤيته وانجازاته، وتنظيم الحملات الدعائية المتحمسة والمرتكزة على الغرب.
وفي مسارٍ آخر، اعتمد محمد بن سلمان سياسة “كم الأفواه”، عبر فرضه رقابة حديدية على وسائل الاعلام والصحف والبرامج السعودية، وأنشأ جيشًا الكترونيًا أو ما يسمى بالذباب الالكتروني لقمع كل من يخالفه الرأي أو يوجه له ولسياساته الانتقادات والملاحظات، حتى وصل الامر، في انتهاكٍ فاضحٍ للقانون الدولي وخروجٍ دراماتيكي على قوانين المملكة، إلى اصدار احكامِ اعدام وسجنٍ بحق سعوديين بتهمة التعبير عن رأيهم أو توجيه انتقاداتٍ لسياساته وأدائه، ففي عام ٢٠١٧ حكم على الخبير الاقتصادي عصام الزامل الذي كرّمه الملك السعودي في عام ٢٠١٤ باعتباره من رواد التكنولوجيا في المملكة ومنحه جائزة “أصغر رائد أعمال مبدع”، بالسجن ١٥ عامًا بسبب آرائه الاقتصادية وخاصة موقفه من طرح أرامكو للخصخصة والتغيير الاقتصادي القائم على بيع ارامكو وفرض الضرائب وفق رؤية ٢٠٣٠ التي يحملها ابن سلمان. وفي الوقت الذي تمتلئ فيه سجون السعودية بمعتقلي الرأي من نشطاء حقوقيين ومعارضين، ودعاة ورجال دين، طالت يد محمد بن سلمان الصحافي الموالي للنظام السعودي جمال خاشقجي عام ٢٠١٨ في تركيا، لتقوم فرقة النمر باستدراجه الى القنصلية السعودية في اسطنبول، وقتله والتخلص من جثته بأبشع الطرق.
“أثر الصقيع هو التأثير السلبي لأي إجراء حكومي على أشخاص طبيعيين أو معنويين من أجل ثنيهم بشكل استباقي عن ممارسة حقوقهم في التعبير عن آرائهم والتي تكفلها القوانين، خوفًا من الخضوع لإجراءات عقابية قد تكون اجراءات معلنة رسميًا أو مبطنة، كالتهديد بالعنف أو القيام بحملات تشهير، حيث يهدف تأثير الصقيع إلى قمع حرية التعبير، وقد استخدمته المحكمة العليا في الولايات المتحدة في حقبة مكارثي من أجل قمع الشيوعيين أو من تسميهم المخربين”.
لم تقتصر سياسة القمع التي تبناها ابن سلمان على السعوديين، بل طالت دول الجوار والمنطقة وبعض الاحزاب والتيارات والشخصيات والأفراد، كدولة قطر، وحركة حماس، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان وغيرهم، كما كان للبنان النصيب الاوفر من “صقيع المملكة”، حيث إن العلاقات التاريخية بين المملكة ولبنان، والتبعية التي كرّسها رفيق الحريري منذ توليه منصب رئاسة الحكومة “السنيّ”، والتي استكملها ابنه سعد الحريري، مكنت السعودية من ممارسة الترهيب والبلطجة على مختلف أطياف الشعب اللبناني، من إعلاميين وسياسيين وفنانين؛ فعام ٢٠١٧ قام ابن سلمان باختطاف رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك سعد الحريري وإجباره على تقديم استقالته مباشرةً على الهواء، وذلك لعدم رضاه على سياسات الحريري في التعاطي مع حزب الله، وبهدف افتعال أزمةٍ في الدولة اللبنانية. كما قامت لاحقًا سلطات الرياض باعتقال الملحن اللبناني سمير صفير بشكل تعسفي أشبه بعملية الاختطاف، بسبب موقف سابق لصفير طالب فيه الرياض بإطعام الجياع بدلًا من قصف الابرياء في اليمن، لتعيد إطلاق سراحه لاحقًا.
عمليات الترهيب هذه طالت أيضًا لقمة عيش اللبنانيين، وقطعت أرزاق الكثيرين كواحد من أقذر أشكال “الابتزاز والتمنين”، وكان أبرزها حادثة الاعلامي جاد غصن، الذي استقال من قناة الجديد ليتوجه إلى قناة “بلومبيرغ الشرق” في دبي، إلا أن حملة تشهير شنّها ضده الذباب الالكتروني السعودي مدعومًا بمغردين لبنانيين موالين للسعودية بسبب تغريدة سابقة ينتقد فيها ابن سلمان ويؤيد فيها حزب الله حالت دون ذلك.
العقلية التي يدير فيها ابن سلمان هذا المسار القمعي، تعبر عن مدى خوف القيادة السعودية من “الرأي الآخر”، أو من تأثير أي انتقادٍ يوجه لها ولسياساتها، ويعكس الشخصية التي تتحكم بهذا المسار، شخصية محمد بن سلمان الذي يمارس السلطة الستبدة مع شعورٍ بالسموّ والزهو والعظمة، معتقدًا بأنه مركز الكون، ما ولّد لديه شعورًا بقداسة سلطته، خصوصًا مع وجود جيشٍ من المطيعين المطبلين المصفقين له، حتى وإن بصق في وجوههم أو اختطفهم ثم أفرج عنهم، أو اختطف والدهم وقطعه، كما جرى مع الحريري وعائلة خاشقجي.
وما يعيشه اليوم لبنان من أزمة دبلوماسية مع السعودية خصوصًا، ودول مجلس التعاون الخليجي عمومًا، بسبب تصريحٍ لوزير الاعلام اللبناني ونجم قناة أم بي سي سابقًا جورج قرداحي يصف فيه الحرب السعودية على اليمن بالعبثيّة، وهو لم يكن وزيرًا حينها، ليس سوى تمظهر واضح لهذا الاستعلاء الذي تمارسه القيادة السعودية اتجاه اللبنانيين، ولحالة “بارانويا العظمة” التي تصيب محمد بن سلمان.
وبالرغم من امتلاء دلوِ السعودية بالأسباب والذرائع التي تدفعها لاستعداء لبنان، من حضور حزب الله في الحكومة اللبنانية ممثلًا بوزراء، إلى دور الحزب في انهاء الهجمة التكفيرية على سوريا والعراق، وارتباطه العقائدي بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران، وموقفه العلني من العدوان السعودي على اليمن وغيرها، وإفشال مخططات الفتنة السعودية في لبنان، من اختطاف الحريري سابقًا وأحداث العنف المتنقلة لاحقًا، إلا أن وقع انتقاد المقدم العربي الشهير “جورج قرداحي” كان ثقيلًا على عتوّ ابن سلمان، لأن قرداحي كان موظفًا سابقًا في إحدى مؤسساته، وكون قرداحي أصرّ على موقفه ولم يتلُ فعل الندامة، معلنا عن نيته عدم الاستقالة.
ورغم أن ابن سلمان قد هضم تصريحاتٍ أقسى من ترامب تصف السعودية بالبقرة الحلوب، ومن بايدن وغيره من القادة الاوروبيين الذين وجهوا للمملكة وولي عهدها شتى انواع التهم، لكن أن ينتقد ابن سلمان، الذي يؤلّه نفسه، ويقود المملكة نحو الخراب بهذا الجنوح والتعجرف، وردّات فعله وعنجهيته القاتلة، موظف سابق ووزير لبناني حالي، فهذا ما أصابه بالمقتل، فمهما علا صوت ذبابه، وارتفعت أصوات الحفلات وعروض الازياء، سيبقى صوت القمع أقوى، ووقع السيف على رقاب المعارضين أمضى، فهل تكون شمس قرداحي هي الشمس التي ستذيب جناحَي ابن سلمان، “إيكاروس” الجديد، الروماني الذي صنع له والده جناحين من ريشٍ وشمع، فغلب عليه الشعور بالألوهية، فحلّق عاليًا حتى اقترب من الشمس فذاب جناحاه ووقع ومات؟