لا حاجة لبدء الرسالة بالتحايا والسلام، فمثلنا، نحن أشرف الناس، أصدق من أن نجاملَ قاتلنا بتحية، وإن كنا في بعض الأحيان نشفق على حاله الخاضعة البائسة. وهل ثمّة بؤس يوازي تمثيل مملكة من رمال وخيانات والنطق باسم سلالة قامت على استباحة الدم العزيز؟
أما بعد،
لا بدّ أنّك الآن، وفيما تغادر بلدنا، ربّما بغير رجعة رسمية قريبة، تستعيد مواقف مرّت معك وأمامك، لا سيّما أنّك قضيت مهمتك الدبلوماسية هنا كحاكم تصطف عند باب خيمته وجوه سياسية وإعلامية وفنية وترجوه رضا وقبولًا وأشياء أخرى.
ستتذكر كثيرًا ملامح الذلّ التي رأيتها على وجوه ضيوفك الذين تعروا في كل موعد من كرامتهم أكثر لينالوا حفنة من “عطايا” مملكتك، وسيرافق المشهد في ذاكرتك الكثير من الاحتقار ومن الشعور بأنّ هؤلاء جميعهم كانوا أرخص من أن تحفظ أسماءهم، وجلّ ما قد يبقى في ذهنك منهم هو اللاشرف الظاهر في كلّ حركة من حركاتهم، والذي يرضيك بشكل أو بآخر على اعتبار أن دونيتهم لا بد ترضي استعلاءك الفارغ، وأن انسحاقهم يعزّز فيك شعورًا بالقوّة المصنوعة من وهم، وأنهم في اللاشرف يتماهون معك ومع أوليائك.
ستغادر “مملكتك” المسيّجة هنا إلى الرياض عبر مطار بيروت. هي ليست المرة الأولى التي تسلك فيها طريق المطار، لكن صدقني في هذه المرة، ستنظر حولك بتدقيق أكثر، سترى في كلّ صورة على الطريق حكاية تذكّرك بهشاشة دولتك، وبعزّة الذين لم يرتضوا الذلّ يومًا وواجهوا أعتى قوى الشرّ وانتصروا.
ستساعدك الكلمات المكتوبة بلغة الصدق قرب الطريق على تذكّر وجوه من لم يطلبوا يومًا موعدًا في سفارتك، والذين تحصّنوا بكرامات عالية وشرف أصيل وما ارتضوا على عزّة أنفسهم ذلّ ورود أسمائهم في لائحة مريدي رضاك ورضا مملكتك الواهية.
شيءٌ فيك سيحاول الهروب من الفكرة فيجد أمامه، في الطريق، معالم تشير إلى انتماء من تهرب من تذكّرهم إلى محور الشرف المقاوم. وهنا، في هذه اللحظة، ستستعجل الوصول إلى الطائرة التي تبعدك عن بلد يشهر كرامته سيفًا عتيًّا مهما كثر الزاحفون فيه إلى قدميك، وستظن أنّك ساعة المغادرة ستتحرّر من ثقل التحديق في الشرف الصافي. لكن في الرياض لن تكون بحال أفضل، فالوجوه هناك مثقلة بهزيمتها في مأرب، وبسقوطها أمام قوّة الحقّ اليمنية. ستجد روحك محاصرة بين مشهدين من شرف واحد، وستزداد نقمتك على الزمن الذي كشف عدم شرفكم على مرأى كل العيون “فالضدّ يُظهِر [قبحَه] الضدُّ”، وجعلكم رغم النفط ورغم المال “مضحكة” الأمم.
مغادرًا، ستتذكر ذليلًا حاول استبقاءك، وقد وردتك اتصالات كثيرة ترجو مملكتك تريثًا في قراراتها وتعدها بتنفيذ كلّ أوامرها على أكمل وجه، وسيعزّ عليك، إن كان فيك بواقٍ من شرف قديم، أنّ الشرفاء تلقفوا خبر سحبِك إلى الرياض بعبارة “درب يسد ما يرد”، وإن لم تفهمها، يمكنك أن تسأل من تسعوَدوا في لبنان عن معناها، إن كانوا يتذكرون معاني لهجتنا المحكية.
في الختام، ليس أبلغ وأجمل من “درب يسدّ ما يردّ” تلك في وداعك الذي نتمنى أن يكون نهائيًا، وأن يشكّل الخاتمة الرسمية لصلتكم ببلدنا، حتى يحين زوال سلالة آل سعود وعودة أرض الحجاز إلى شرفها العربي الأصيل.