كامل الصباح* – خاص الناشر |
انتهيت مؤخرًا من قراءة كتاب المؤرخ الإسرائيلي ايلان بابيه “اكبر سجن على الارض”، وهي قراءة تقلبت بين المتعة والشعور العميق
بالمرارة. لكن الاهم من كل ذلك والذي يبقى امرًا ذاتيًا يخص الفرد المتلقي، هو ما تضمنه الكتاب من وثائق وخلاصات تعن الفلسطيني ومعه العربي اللاهث وراء “سلام” او حتى صيغة “تعايش” مع هذا الاحتلال لكامل فلسطين.
يورد بابيه مثلًا وثائق يعود تاريخها للعام 1963 تتعلق بالتحضير لعدوان 1967 وكيفية ادارة الاراضي المنوي احتلالها والتعامل مع من سيظل من اصحاب الارض واقتراح “حكم ذاتي” من قبل سلطة ترتضيها “اسرائيل”. كما ويوثق الكتاب مثلًا استفزازات المستوطنين الصهاينة للسوريين في هضبة الجولان قبل 67، بغية جر حكومتهم لحرب حيث يبين ان المستوطنين قبل حكومتهم كانت لهم مطامع شخصية في هذه الارض. ويظهر الرغبة الإسرائيلية الدائمة في استهداف هذا البلد، واضعافه وتحييده عن اي معادلة من معادلات الصراع.
في ثنايا الكتاب وعلى طول صفحاته تجد ان المحرك الاساس للسياسات الصهيونية في الضفة والقطاع كان “الطرد” و “الاستيلاء على المزيد من الاراضي”، وايداع من تبقى في سجن يعد الاكبر من نوعه على وجه المعمورة. فالوثائق التي يكشف الكتاب عنها بالاضافة الى محاضر اجتماعات الحكومات الإسرائيلية منذ العام 1963 وحتى “نكبة” اوسلو، تشي كلها بتصميم سجن يتراوح في صبغته بين سجن مفتوح كما في الفترة الواقعة بين 1967 الى 1987 تاريخ اندلاع الانتفاضة الاولى، وبين السجن المغلق الذي عمد الى غلق المناطق الفلسطينية مقطعة الاوصال وتحزيمها بالمستوطنات وتسييجها بالحواجز طوال سني الانتفاضتين الاولى والثانية، وفترات الاضطراب الامني الناجم عن الحروب التي يشنها الاحتلال على شعبنا.
وبالعودة الى “الحكم الذاتي” فعدا عن كونه نتاجًا لـ”تمثيلية اوسلو” كما يصفها بابيه، فإن الاب الشرعي له منذ العام 1963 هو ايغال آلون. وإان مسألة ربطه بـ”مشروع وطني فلسطيني” هو نوع من تزييف الوعي وتسويق المشروع الصهيوني بعباءة فلسطينية. وفي السياق تستدل كيف ان عرفات -مع غض الطرف على اطلاق حكم عليه- دخل اوسلو وهو على تمام العلم بكونها اسرائيلية حتى النخاع، ظنًا منه انه قد يستطيع فرض وقائع تجعل من دخوله لـ”السجن” الذي شيدته اسرائيل لشعبه “كيانًا” او “خيال دولة”. ولدى اصطدامه بحقيقة انه لن ينال اكثر من حكم ذاتي على مجموعة كانتونات، وأن صبغة “المقاول الامني” للاحتلال هي جوهر وكنه اوسلو، تم اسقاط صفة “شريك السلام” عنه وادخاله في سجن داخل السجن الذي ادخل حركته ومعها منظمة التحرير اليه.
في سرده لمجمل الممارسات الصهيونية تجاه ابناء شعبنا الفلسطيني بكليته (الداخل والضفة والقطاع)، يعود الكاتب بالقارئ العربي الى اولويات الصراع البسيطة ذلك ان اصدق الحقائق هو ابسطها بأن لا حوار مع هذا الكيان وأن الصراع معه هو صراع الوجود إما نحن او هو، وهي الاولويات التي لم ينطق بها بابيه ويفترض ان يصل اليها من كان ذا بوصلة وطنية وحس انساني سليم. ففي معرض الحديث عما تبقى من خيارات لفلسطينيي الضفة المحتلة، يقول بابيه مثلًا إنه لا خيار لهم الا “البقاء” في ارضهم او “المقاومة”.
ختامًا، ان هذا الكتاب وثيقة تاريخية قد يشوبها النقص او استبطان حلول ما تدور في خلد المؤلف. ولا اجدني وسواي ملزمين بخيار الاخذ بما يطرحه من حلول لصراعنا مع هذا الكيان خارج الكتاب، ذلك اننا نتعامل مع تاريخ ووقائع لا اكثر ولا اقل. فلا “حل الدولتين” ممكن بسبب استحالته عمليًا، ولا حل الدولة الواحدة بمطروح في ظل صبغة الكيان كقاعدة متقدمة للغرب الاستعماري في بلادنا وصهيونية قاطني هذا الكيان وجملة العقد التاريخية والايديلوجية التي يعيشون بها ويعتاشون عليها.
*كاتب أردني