من بغداد إلى بيروت رحلة تشرينية ببوسطة واحدة

يُميز شهر تشرين في لبنان ورده بلونيه
الأصفر والبرتقالي، ويحاط هذا الشهر بشيء من الرومانسية، فهو على باب الشتوية وآخر الصيفية، كتب له الرحابنة وغنته فيروز ليكون ذاكرة مجتمعية ويزيده رونقاً ويعطيه اسماً موسيقياً، إلا أن هذه الشاعرية المرتبطة بشهر تشرين اختفت في السنتين الأخيرتين ليرتبط اسم هذا الشهر بالحوادث الأمنية والتظاهرات وقطع الطرقات، والتي بدأت تحت عنوان إسقاط النظام السياسي في لبنان في السابع عشر من تشرين الأول ٢٠١٩ وأصبحت تعرف “بثورة ١٧ تشرين” مع التحفظ على مصطلح ثورة الذي وسمت إعلامياً به هذه التظاهرات التي لم ترقَ إلى مستوى ثورة ولم ترتفع عن كونها حركة احتجاج تميزت بقطع الطرقات والشتائم والألفاظ النابية والمبرر كان وجع الناس والوضع المعيشي المتردي والمعاداة للسلطة الحاكمة التي نهبت الدولة وجوعت الشعب. المفارقة كانت أن معظم الأحزاب التي شاركت وشكلت السلطة على مدار ثلاثين عاماً هي نفسها ركائز هذا الاحتجاج وحاملة لواء التغيير واسقاط النظام، الشعب هو نفسه الأحزاب، والأحزاب هي نفسها نظام الحكم، إذاً فالأحزاب تريد أن تسقط الأحزاب!.
ورغم خصوصية شهر تشرين في لبنان، إلا أن العراق كان شريكاً هذه المرة في الجَمعة التشرينية ليشكل اليوم الأول من هذا الشهر وفي العام نفسه ٢٠١٩، ذكرى التظاهرات التي اقترن اسمها بتشرين، حتى سموا أنفسهم أو باتوا يعرفون الآن بالتشرينيين، وقد خاضوا الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة تحت هذا المسمى. ورغم كل الزخم الاعلامي الذي رافق تشرينيي العراق في العام ٢٠١٩ وصوروا كالأبطال في الشارع العراقي حتى بات سائق التكتك أيقونة للثورة وأشبه بباتمان العراق، رغم كل هذه الروافع لم يحظ التشرينيون إلا بتسعة مقاعد نيابية في البرلمان العراقي وهو ما أظهر حجمهم الحقيقي غير الذي ظهّرته القنوات الاعلامية العراقية والتي في أغلبها ممولة أمريكياً أو سعودياً أو إماراتياً، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي وناشطيها الذين تحولوا إلى قضاة وفلاسفة ومنظرين ” للثورة” ومدافعين عن حقوق الإنسان، التي غابت فجأة بمجرد استقالة حكومة عادل عبد المهدي! مع أن الوضع في العراق اليوم أسوأ مما كان ولم يتحقق شيء من مطالب الشعب سوى رحيل عبد المهدي وتشكيل حكومة الكاظمي المدعوم أمريكياً، الذي جعل من أبرز الناطقين باسم الشعب الثائر، ناطقاً رسمياً باسم حكومته أحمد ملا طلال!


وها هم تشرينو لبنان يسيرون على خطى تشرينيي العراق في التحضير لخوض غمار التجربة الانتخابية ويعتبرون أن الأرض مهيأة لاحداث التغيير. ولم يكن اجتماع الجمعيات المدنية مع السفيرة الأمريكية دوروثي شيا إلا للتنسيق من أجل هذه المهمة. وبالأمس القريب اجتمع معهم آموس هوكشتاين كبير مستشاري الرئيس الأميركي لأمن الطاقة خلال زيارته إلى لبنان ليرسم خارطة طريق توصل هذا الفريق المستجد بوجوهه الجديدة منها والقديمة تحت شعار التغيير والإنقاذ ومقدماً التجربة العراقية نموذجاً لثائري الستار باكس على الرغم من أن أقرانهم العراقيين لم يحققوا نسبة عالية في التمثيل البرلماني كما كانوا يروجون، ما اعتبر فشلاً لحراكهم السياسي والاجتماعي والذي لم يدفع الشباب العراقي للتصويت وفضل مقاطعة الانتخابات تعبيراً عن اليأس من احداث أي تغيير في المشهد العراقي، وربما مرد هذا اليأس إلى خيبة الأمل من ثورة تشرين التي لم تعدُ كونها لعبة للانقلاب على بعض المكاسب الاقتصادية التي كان يسعى لها رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي من خلال توقيع اتفاقية مع الصين بهدف بناء بنية تحتية وفتح فرص عمل للشباب مقابل النفط العراقي، رغم كل ما قيل آنذاك عن النتائج الايجابية لهذه الاتفاقية، إلا أن الشعب العراقي كان مخدراً ولنقل إن جزءًَا كبيراً من الشعب كان يصدق بعض الناشطين والمنظرين بأن إيران والفصائل الممولة منها هي سبب الفساد والأزمات التي يعيشها الشباب تماما كما كان يروج ثوار الرينغ في بيروت بأن حزب الله هو حامي الفساد ولو لم يكن فاسدًا وبالتالي هو سبب الأزمة.


كله مخطط ومدروس ولا مجال للصدفة حتى في التوقيت في حين لا يزال العراق متقدماً قليلاً في مسار الخطة الأميركية.


بالعودة للعام ٢٠١٩ وتحديداً قبل شهر من اندلاع التظاهرات الدموية في العراق في ١٧ تشرين الأول، تحدث الأمين العام لعصائب أهل الحق الشيخ قيس الخزعلي عن تحركات أمنية في شهر تشرين محذراً من لعبة مخابرات أميركية. لم يصدق الشعب العراقي نظرية المؤامرة هذه، كون التظاهرات انطلقت من مطالب معيشية محقة، كذلك حصل في لبنان وبعد اسبوع من التحرك بسبب تصريح وزير الاتصالات عن نية الوزارة فرض ضريبة على الوتس اب، خرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ليؤكد على مطالب الشعب المحقة ومحذراً من ركوب الموجة من قبل الاحزاب التي شاركت في الحكم لأكثر من ثلاثين عاماً، فخرجت الأقلام والابواق الثورية لتركز السهام على حزب الله والتيار الوطني الحر باعتبارهما حاكمين البلد وتحملهما المسؤولية كاملة عن الانهيار الاقتصادي، وآزرتهم في لعبتهم هذه المصارف التي احكمت على أموال المودعين وتكفلت بانهيار الليرة اللبنانية مقابل صعود الدولار الذي لم يتوقف حتى اليوم.


مقارنة بسيطة بين حركات الشارع التشرينية بين بغداد وبيروت مع خصوصية كل بلد، تجد أوجه التشابه جلية، والأهداف واضحة لمن يقرأ من خارج المشهدين، وبتركيب الأجزاء يتضح أن الحشد الشعبي وحزب الله هما المستهدفان بالمباشر، وعلى الرغم من عدم بلوغ الهدف إلا أن المسار ما زال متاحاً لكل الفرص.


ربما يطرح سؤال هنا، إذا كانت التجربة الانتخابية في العراق فشلت بايصال ممثلي تشرين للبرلمان، فلماذا يطرح هوكشتاين التجربة العراقية نموذجاً للجمعيات والناشطين في لبنان؟
نجد الجواب عند النائب السابقة والناشطة ومن دعاة ثورة تشرين بولا يعقوبيان والتي صرحت في مقابلة أن الهدف هو خسارة الفريق الحاكم وأشارت لحزب الله دون أن تسميه لتعود وتؤكد على ضرورة إسقاط الثنائي الشيعي وإلا لا تغيير في البلد ولا انفراج اقتصاديا، حتى وصل بها الحال أن تتهم حزب الله بأنه من قتل نفسه بأحداث الطيونه التي وقع ضحيتها ٧ شهداء من حزب الله وأمل! والجميع يعلم أن القوات اللبنانية هي المسؤولة عن اراقة دمائهم، وباعتراف الموقوفين ممن شاركوا في قنص المتظاهرين، أو من خلال تصريحات مسؤولي القوات أنفسهم بعيد ارتكاب المجرزة.


إذاً لا زال الكذب مستمراً حتى لو كان مفضوحاً، وتبرر يعقوبيان هذه الخطة الهوليودية لحزب الله بأنها في سبيل شد العصب لكسب الانتخابات، لتوحي بأن حزب الله مستعد لفعل اي شيء في سبيل الفوز بالانتخابات لو على حساب دمائه!
ربما يعقوبيان لم تسمع كلام هدى فرحات أخت الشهيدة مريم فرحات ووالدتها اللتين عبرتا عن دعمهما لحزب الله والتزامهما التكليف حتى لو كان من خلال الانتخابات.
على الرغم من أن دماء مريم المسفوكة ظلماً ما تزال أمامهم ويعلمون حكمة السيد في قطع الطريق على أي فتنة او حرب أهلية.


كلام يعقوبيان يلخص كل الرغبة الأميركية في استخلاص العبر من التجربة العراقية والاستفادة منها لبنانيا، فالهدف هو اسقاط حزب الله انتخابياً ولو لم تربح لوائح المجتمع المدني كاملة، المهم هو خسارة حزب الله وأمل شيعياً، والتيار الوطني الحر مسيحياً، الأمر الذي يبرر تصرف القوات على أنهم الحامي الوحيد للمسيحيين من خطر الشيعة في لبنان، وهو ما دحضه السيد نصر الله في خطابه تعقيباً على أحداث الطيونه من خلال النماذج التي قدمها رجال حزب الله سواء في سوريا من خلال حماية المقدسات المسيحية والبلدات أو من خلال تحالفه مع التيار الوطني الحر أكبر مكون مسيحي في لبنان والعمل على مراعاة مطالبهم وهواجسهم دائماً
الأمر الذي كان يقلق القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع المعروف بفكره الالغائي والاقصائي وهو ما لم يخفِه الرجل في مقابلة تلفزيونية عندما أراد أن يرد على اتهام الأمين العام لحزب له بالسعي منذ اتفاق مار مخايل ٢٠٠٦ إلى تخريب هذا الاتفاق، فأكد ما قاله نصر الله من خلال التصريح بأنه ضد التحالف.
تعويم القوات مسيحياً، وتصوير حزب الله الوحش الشيعي الذي يهدد الوجود المسيحي، والتيار الوطني الحر هو الحزب المسيحي الذي يتحالف مع هذا الوحش.
رغبة القوات بالاستثمار بالدم لتحقيق مكاسب انتخابية، كما استثمرت ولا تزال بدماء شهداء المرفأ، تماما كبولا يعقوبيان رمز الثورة التشرينية، لن تتحقق، لأن التحقيق في جريمة الطيونه جاد على ما يبدو وفقاً للتسريبات، ولصبر حزب الله على الأذى والعض على الجراح هدف لا يضيع به دماء الشهداء و رغبة بعدم تحقيق الأهداف الأمريكية من خلال الانجرار إلى حرب أهلية.

قد تكون خسارة الحشد وفصائل المقاومة لأكثر من نصف مقاعدهم البرلمانية مقارنة مع الانتخابات السابقة نصراً لتشرينيي العراق ومن خلفهم حتى لو كانت خسارة مصطنعة ومدبرة كما تبين لاحقاً من خلال التلاعب بنتائج الانتخابات، إلا أن اللعبة لم تنتهِ بعد والشارع العراقي اليوم أصبح للحشد بعد أن كان ضده ومحتشداً للنيل من إنجازاته الميدانية ضد داعش كما أن الانتخابات النيابية في لبنان ستفرز المشهد السياسي مختلفاً هذه المرة عن شريكه في المراحل من خلال عودة اللونين الأصفر والبرتقالي لزهرة تشرين المفقودة.

اساسيالعراقلبنانمظاهرات