عمار الكوفي – خاص الناشر |
شيئًا فشيئًا، يتلمس الجيل الذي وعى المقاومة ورآها من خلال وجه علي أشمر أوجهًا جديدة من أوجه الشهداء، أو ربما اوجهًا اكثر دقة وقربًا. ربما لعبت الآلة الإعلامية المتواضعة للمقاومة آنذاك -وحتى الآن- دورًا في رسم صورة ملائكية لكثير منهم، ظهّرتهم كشخصيات أسطورية بعيدة المنال، حتى تظن لوهلة ان هؤلاء لم يكونوا بيننا، أو انهم شخصيات سماوية بأجنحة ولباس ابيض دائم لا يتّسخ، شخصيات معصومة لا تخطئ، ولا تنتمي للعالم الذي ننتمي إليه نحن.
بعد حضور حزب الله العسكري في سوريا، وبمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها، بدأت تبرز صورة اكثر واقعية، اكثر تماسًا مع الأرض لهؤلاء الشباب. ربما شكل ذلك مشكلة للبعض، لم يتعودوا ان يروا شباب المقاومة هكذا، كانوا قد رسموا صورة متخيلة اكثر قداسة كما يظنون، وذلك ينطلق من فهم ديني ضيق لفكرة “التميز”، أو لطريقة تشكل المقدس في ذهن هؤلاء.
في الأيام الأخيرة، وفي حادثة الطيونة استوقف الجميع مشهد الشاب الذي استشهد حاملًا قاذف الـb7 محاولاً إسكات القناص الذي أردى عُزّلًا يشاركون في تظاهرة سلمية، الشهيد محمد السيد، “السيكو”. حتى نمط الاسم جديد على سمع البعض. وبدأت بعد ذلك تتوالى المشاهد والصور، من سوريا وجبهاتها إلى معسكرات التدريب، التي ظهر فيها السيكو شابًّا عسكريًا “مرًّا”، فيديوهات أخرى وصور له مع ابنته وولده، واطفال أصدقائه تظهره شابًّا حنونًا وعطوفاً، وصوره زائرًا للمراقد المقدسة ومشاركًا في مجالس عزاء الحسين عليه السلام.
انتقد البعض نشر صور قالوا إنها “خاصة” بالشهيد محمد، صور “لا تلائم قدسية الشهادة”، على البحر، وبين رفاقه، ملاحقًا صديقه ليأكل البيتزا و”يخلّصلو ياها ويطعميه الضرب”، ومشاهد أخرى تُظهر هذا الشاب العادي، الطبيعي، لا علامة سجود على جبهته، ولا يلبس قميص الكارو، على العكس شكله ولباسه مناقضان للصورة تلك. والنقد ربما كان لأن الصورة الذهنية نحو هؤلاء الشباب أُشبعت بصور غير واقعية ساهمت في إنتاجها سنوات من التظهير الاعلامي غير المدروس او السطحي، المتأثر ربما بثقافات أخرى، في حين ان الصورة الواقعية مختلفة كليًا.
هؤلاء الشباب ليسوا قديسين بالمعنى التقليدي، هم نعم قديسو المرحلة والواقع، رهبان الشارع، من الشياح والغبيري والبرج وحي السلم وبير العبد. ربما يحملون ذكريات من الاكسبرس “اللي ع الزاوية” اكثر مما يحملون ذكريات من المسجد، المسجد الذي كانوا يعودون له دائمًا، شباب الأحياء الفقيرة الذين لم يتنمق حديثهم والذين يلجؤون لمعرفة الحكم الشرعي لأقرب شيخ “شببلكي” ويختمون حديثهم معه بـ”ع راسي يا كبير عذبتك”. لم تدعهم للقتال أدلجة مركزة أو حواضن إنتاج فكرية مقولبة، دعاهم للقتال الحب، والحمية، والغيرة، والحسين. هم يحبون شعبهم، ولديهم استعداد للتضحية لأجله، هم يعاندون أميركا لأنها تظلم، ويقاتلون إسرائيل لأنها مغتصبة للحقوق، ويؤيدون السيد حسن لأنه صادق، وهم يحاولون دومًا ان يكونوا “ماشيين صح”، ليسوا ملائكة معصومين.
قبل أن يطلب السيكو المسامحة من إخوانه في حركة امل ويوصيهم بالوحدة ورصّ الصفوف، قال مهدي ياغي “سامحونا لأنو كلنا منغلط”. هم شباب عاديون، لم تثقفهم الجريدة وأطر التوجيه الحربي بقدر ما ثقفهم الواقع وتكالب المستعمر المستكبر على بيئتهم وبلادهم. عاشوا بيننا، وكانوا مثلنا. حتمًا أخطؤوا مرارًا، وتابوا مرارًا، وتعثروا مرارًا، وأعادوا الوقوف مرة بعد أخرى. لم يكونوا يتّسمون جميعهم بالهدوء الذي يتّسم به الحكماء، منهم من كان هادئًا ومنهم من كان كتلة نار وحماس متحركة، لكن جميعهم كانوا أصحاب غيرة وحمية، وكانوا شجعانًا لم تستطع الحياة أن تكبّلهم إليها وتمنعهم من أداء واجباتهم التاريخية إزاء مجتمعهم ووطنهم رغم حبهم لها.
هؤلاء هم نحن. نحن نستطيع أن نكون مثلهم، وطريقهم يتسع للجميع. الجميع من الممكن أن يكونوا علي اشمر، الجميع من الممكن أن يكونوا محمد السيكو.