يعيش الأقليم مخاضًا عسيرًا بفعل إرهاصات الانسحاب الاميركي المباشر من المنطقة، بعد اتمام الانسحاب الهوليوودي من أفغانستان، الذي لم يخلُ من المشاهد المثيرة التي تعودنا على مشاهدتها في أفلام هوليوود السنمائية، وذلك من خلال الشكل والكيفية التي تم خلالها الانسحاب العسكري المباشر، محدثًا فجوة عميقة وخللًا بنيويًا بدأت طلائعه تظهر من خلال عودة تنظيم داعش بقوة لتصدر المشهد الافغاني خلال الاسابيع الماضية.
تفجيرات إرهابية تطال عددًا من المساجد للمسلمين الشيعة في قنذور وقندهار وغيرهما خلال الأسابيع الماضية مخلفة عشرات الضحايا والجرحى بمشهد اعادنا بالذاكرة الى الأحداث الدموية التي عاشتها افغانستان خلال حقبة الاحتلال الاميركي وما قبلها.
الانسحاب الاميركي العسكري المباشر من افغانستان تعمد ترك فجوة أمنية كبرى لاعادة عقارب الساعة الى الوراء ومنع اقامة دولة قادرة على نسج علاقات صحية مع الجوار. اراد الجانب الأميركي بذلك احداث خلل امني كبير في مربع اعدائه الاستراتيجيين في روسيا والصين، وخلق توتر دائم بين ايران وافغانستان على قاعدة تمدد تنظيم داعش في الاخيرة وتهديد الحدود الايرانية.
المشروع الاميركي ينسحب على العراق وسوريا ومعهما لبنان. موعد سحب القوات الاميركية القتالية من العراق في شهر كانون الاول من العام الحالي، لن يكون موعدًا لتخلص العراقيين من الاحتلال الاميركي لارضهم، بل لضرب موعد مع مواجهة الفوضى الامنية التي ستتركها القوات الاميركية خليفةً لها لتحقيق ما امكن من مكاسب وسياسات أميركية خالصة. ولعل ما نتج عن مشهد الانتخابات النيابية الأخيرة والانقسام الحاد الذي شهدته الساحة العراقية خصوصًا بين المكونات الشيعية يثير القلق حول طبيعة الوضع الامني والسياسي الذي سيعيشه العراق مستقبلًا، في ظل التقارير التي تؤكد وجود عمليات تزوير بنتائج الانتخابات لم تكن الولايات المتحدة والامارات العربية بعيدة عنها. ولعل المشروع الاميركي يهدف الى خلق فوضى وعدم استقرار امني وسياسي قبيل سحب القوات القتالية لضمان بقاء النفوذ الاميركي والقدرة على التحكم والسيطرة داخل العراق.
في سوريا نعيش على وقع الحديث عن عودة سوريا الى اعادة علاقاتها مع المحيط العربي والمجتمع الدولي، وذلك بفعل صمود الدولة والشعب والجيش السوري خلال سنوات الحرب الكونية الطويلة. وقد ظهر ذلك بشكل لافت مؤخرًا من خلال الاتصال الذي دار بين ملك الاردن عبد الله الثاني والرئيس السوري بشار الاسد بعد فتح معبري جابر ونصيب الحدوديين، والكلام الاماراتي المتكرر عن ضرورة عودة العلاقات مع سوريا الى سابق عهدها. وكان قد سبق ذلك زيارة الوفد الوزاري اللبناني الى سوريا على خلفية استجرار الطاقة من الاردن عبر الاراضي السورية. كل ذلك أيضًا يوضع بخانة كسر العزلة والحصار وضرب قانون قيصر القاضي الى معاقبة كل من يتعامل مع الدولة السورية افرادًا وكيانات.
تعود اليوم العمليات الارهابية لتطل برأسها من جديد منذرة باعاقة عملية عودة سوريا لاعبًا مؤثرًا في الاقليم. يأتي هذا في سياق الحد من آثار الانسحاب الاميركي العسكري من المنطقة، وانعكاسه على التوازن الاقليمي، خصوصًا فيما يتعلق بالدور الذي لعبته سوريا سابقًا ولا زالت تلعبه كصلة وصل إلزامية في مسار ومصير حركات التحرر والمقاومة في المنطقة من طهران وصولًا الى غزة وما بينهما. عليه فإن اعادة الفوضى والارهاب الى الساحة السورية يعتبر اليوم مطلبًا أميركيًا وممرًا الزاميًا يضمن لهم عدم نهوض هذه المنطقة مجددًا ما يسمح بالتوجه نحو بحر الصين لمواجهة التنين الصيني.
ليس بعيدًا عن المشهد عينه لكن بأدوات مختلفه تتناسب مع البيئة اللبنانية، يستمر مسلسل العبث بالأمن واستهداف المقاومة في أكثر من صعيد. ولعل كمين الغدر الآثم الذي نفذته القوات اللبنانية يوم الخميس الفائت في منطقة الطيونه خير دليل على وجود أجندة مرتبطة بالمصالح الاميركية تسعى لجر لبنان نحو اقتتال داخلي. كما أن تاريخ من نفذ المجزرة حافل بارتباطه باجندات خليجية وأميركية لا يسع ذكر دلائلها الآن. لكن التاريخ البعيد والقريب يؤكد ضلوع حزب القوات اللبنانية ورئيسه بتنفيذ أجندات خارجية تمتد من تل أبيب الى واشنطن مرورًا بممكلة آال سعود وغيرها.
المسار الذي تسلكه التطورات في المنطقة يؤكد وجود نية أميركية كبرى بإعادة الفوضى “الخلاقة” لمنع دول المنطقة من التقاط انفاسها والبحث عن مصالحها. المصلحة الاميركية الآن تقتضي اشغال اعدائها بأنفسهم لعشر سنوات على الاقل تضمن خلالها عدم استعادتهم لعافيتهم خصوصًا بعد الصمود الاسطوري الذي حققته حركات المقاومة وحكوماتها في المنطقة، ومنعهم المشروع الاميركي من تحقيق اهدافه، وذلك في سبيل ايجاد فسحة زمنية مقبولة تسمح للاميركيين بالتوجه نحو مواجهة الخطر الاستراتيجي الكبير من الصين وروسيا.
عليه فإن آخر ألغام العدو يكمن في اعادة الفوضى والاقتتال الداخلي الى دولنا. وهذا ما خبرناه مطولًا خلال سنين طويلة من العنف والارهاب والاقتتال الاهلي. لكن الوعي الجمعي اليوم أصبح اكثر قدرة على التقدير ورد الفعل بما بتناسب والمصلحة العامة وعدم الانجرار نحو الغايات والاهداف الاميركية الخبيثة.
وربما كان كمين الطيونة خير مثال على مستوى الانضباط والوعي الذي مارسه جمهور المقاومة على امتداد شارعها، حيث وقف جمهور المقاومة بدمه وصبره وبصيرته سدًا امام مشروع اقتتال داخلي جديد يستهدف في طياته سلاح المقاومة لنزع الشرعية عنه.
قالها السيد نصر الله “انها آخر ألغام العدو”، وبعدها سبنصر ما لم نتوقعه من فرج كبير.