الرسالة التي قتلت “الجندي” سليماني

‏”الجنرال بترايوس، يجب أن تعلم أنني، قاسم سليماني، أتحكم في السياسة الإيرانية فيما يتعلق بالعراق ‏ولبنان وغزة وأفغانستان. إن سفير الجمهورية الاسلامية في بغداد عضو في قوة القدس، ونائبه هو أيضًا ‏عضو في القوة”.‏

بهذه الرسالة المختصرة رسم الشهيد سليماني خطوط تماس المواجهة مع الولايات المتحدة الاميركية ‏وحدودها الجغرافية-السياسية، وفي نفس الوقت وضع سليماني نفسه ووضع روحه على كفه، مطلقًا العنان ‏للمواجهة الاقليمية الشاملة، فكانت الرسالة التي ارسلتها قوة القدس في العام 2008، الى الجنرال ‏بترايوس (قائد القوات الاميركية في ذلك الوقت)، من أهم مصاديق البرنامج المقاوم الشامل الذي قاده ‏الشهيد سليماني في مواجهة الاحتلال المباشر وغير المباشر، لا سيما على الساحة العراقية، المكان الابرز ‏للتواجد الاميركي الفعلي والساحة الشرق اوسطية التي تتحرك من خلالها الهيمنة الاميركية المتجددة، ‏وبرنامجها الظاهر الخفي، لنشر الفوضى واعادة رسم حدود الدول في المنطقة، من خلال تقسيم البلدان ‏وانشاء دويلات جديدة قائمة على العرقية والقومية والطائفية.‏

لواء القدس، البداية
لقد شكل فيلق القدس، كقوة النخبة من الباسداران، الى جانب كونه المسؤول عن بناء قوى المقاومة التي ‏تخوض حرب التحرير وتتبنى الهدف الرئيسي والرمز (القدس) التي يحمل هم وهدف تحريرها في ‏تسميته، الجهاز العسكري والأمني الذي يقود وينفذ عمليات الحرس خارج الحدود الإقليمية للجمهورية.‏

ووفقًا للمحللين العسكريين تعتبر هذه الفرقة هي واحدة من أفضل وحدات القوات الخاصة في العالم، ‏وتتألف من الناس الموهوبين، قادرة وذات دوافع عالية، في داخل حراس الثورة. ‏

لقد كان لواء القدس في مقدمة الأجهزة الإيرانية التي عملت على حماية وتعزيز “الرؤية الأستراتيجية ‏الإيرانية في العراق وفي المنطقة”، وحمل هذا اللواء، بشخص قائده سليماني، على عاتقه برنامج انشاء ‏ورعاية حركات المقاومة في المنطقة في مواجهة المشروع الصهيو- اميركي، واسقاط كل ادواته التخريبية ‏والتي كان في مقدمها ما يسمى بتنظيم “داعش”. ‏

تم إنشاء فيلق القدس خلال الحرب الطويلة ضد العراق (1980-1988) كوحدة خاصة للعمليات عبر ‏الحدود، وكانت مهمة هذا اللواء تقوم على تنظيم وتدريب وتجهيز وتمويل الحركات الإسلامية الثورية في ‏جميع أنحاء العالم. لذا عمل فيلق القدس على دعم المقاومة الكردية ضد صدام حسين، وفي أفغانستان ‏دعم أحمد شاه مسعود، قائد التحالف الشمالي، ضد الغزو السوفياتي السابق، وخلال القتال ضد جيش ‏الكيان الإسرائيلي‏ في صيف عام 2006، كان لفيلق القدس بشخص قائده الجنرال قاسم سليماني الدور ‏الكبير في دعم حزب الله لا سيما في فترات الحرب التي خاضتها المقاومة الاسلامية وانتصرت فيها على ‏الجيش، الذي لطالما اعتبر أنه الجيش الذي لا يقهر، الانتصار الذي اعتبر اكبر تحول في تاريخ الصراع ‏العربي الاسرائيلي والذي اضاف الى باكورة العداء الصهيو-امريكي لسليماني نقاطًا كبرى، لا بل قاتلة.‏

لواء القدس والعراق
لقد شكل الدعم الإيراني، الذي قاده لواء القدس، على الساحة العراقية، للأحزاب أو المنظمات العراقية ومنذ ‏الثمانينيات، أثناء الحرب ضد نظام البعث الحاكم، عاملًا مهمًّا في المواجهة الحالية مع الولايات المتحدة ‏الاميركية، وعلى رأس الاحزاب التي كانت تحظى، يومها، بالدعم كان “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في ‏العراق”، والمعروف باسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والذي ولد في حينه كمعارضة مسلحة لحزب ‏البعث، ليغير اسمه لاحقًا إلى “المجلس الإسلامي العراقي الأعلى”، حيث تخلى عن الشق العسكري ‏المسمى بقوات بدر ليتحول الى حزب يمارس العمل السياسي من خلال العمل البرلماني.‏

‏ بالإضافة إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وبدر، قدّمت إيران، في البداية، الدعم والمساندة لقوى ‏أخرى، أطلق عليها اسم جيش المهدي، بقيادة السيد مقتدى الصدر. ‏

‏ إن دعم إيران بداية للمقاومة العراقية، ومن ثم لاحقًا للحشد الشعبي، كجبهة عريضة في مواجهة الاخطار ‏الداخلية والخارجية اتاح لها ميدان عمليات لم يكن ممكنًا في المراحل السابقة. لقد كان العراق، العامل ‏الأساسي في ساحته الخلفية والملتزم كليًا بإبطال النتائج السلبية للغزو الأمريكي، كمصلحة استراتيجية ‏لايران ولعراق مستقل ايضًا. ‏

إن الأهمية الحيوية للعامل العراقي في الحسابات الاستراتيجية في المنطقة، نظرًا للموقع المؤثر الذي ‏يمتلكه في المنطقة العربية، سواء في دائـرة الموقع الاستراتيجي مع إيران، أو دائرة المشروع الـشرق ‏الأوسطي الذي تريد الولايات المتحدة أن يلعب الكيان الإسرائيلي‏ الدور الأساسي فيه، كان من الاسباب ‏الرئيسية التي رفعت منسوب المواجهة ما بين لواء القدس من جهة، والولايات المتحدة الاميركية من الجهة ‏المقابلة. ومما لا شك فيه أن الحضور الفعال والخبرة العملانية التي تحلى بها اللواء سليماني بالاضافة ‏الى النتائج التي حققها قائد لواء القدس، في المواجهة العسكرية التي خاضتها قوى المقاومة في المنطقة لا ‏سيما الانتصارات التي حققها الحشد الشعبي العراقي بالقيادة الخلفية، الفعالة والفعلية للقائد سليماني، كل ‏هذه الامور دفعت القيادة الاميركية الى الجنون والى التصرف خارج الاصول الدولية عبر قيامها بتنفيذ ‏عمل اغتيال آثم لقائد لواء القدس ومن معه من رموز الانتصار على المشروع الاميركي.‏

‏الشهيد سليماني محطم الاسطورة ومسطّر الشهادة
‏ لقد كان للدور الكبير الذي اداه لواء القدس بقيادة الشهيد سليماني التأثير الأكبر في اعطاء ايران ‏حضورًا كبيرًا وكرسها كقوة إقليمية مؤثرة ولهذا دخلت وبشكل كبير في صراع مع المصالح الأميركية ‏والإسرائيلية والسعودية. لقد ساهمت الأحداث المهمة، بين عامي 2006 و 2012 في تحطيم كل من ‏حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، على التوالي، أسطورة الجيش الذي لا يقهر وصولًا الى العام 2017 عام ‏الانتصار على داعش في العراق وفي لبنان في تغيير التوازن المائل لصالح واشنطن وتعديله لصالح ‏إيران وتكريسًا للاستراتيجية الايرانية القائمة على دعم قوى التحرر، ولم يخف المسؤولون الإيرانيون حجم ‏الانتشار الاستراتيجي الإيراني والدور العسكري والأمني المؤثر الذي تلعبه إيران في الإقليم؛ ففي العام ‏‏2019 وفي أول تصريح له بعد تعيينه قائدًا جديدًا للحرس الثوري، صرح الجنرال حسين سلامي في حينها ‏قائلًا: ‏‎”‎لن نبقي نقطة آمنة للعدو في العالم… على الجمهورية الاسلامية توسيع نطاق قوتها في المنطقة ‏لتشمل العالم‎”‎‏.‏

‏ وفي نفس التصريح أشاد سلامي بقائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني: “فيلق القدس بقيادة ‏قاسم سليماني أنهى سيطرة الأميركيين في شرق المتوسط… فيلق القدس وصل إلى البحر الأحمر وحوّل ‏الدول الإسلامية في المنطقة إلى أراضٍ للجهاد”.‏

واخيرًا نستطيع القول إننا اذا اضفنا ما قاله سلامي بحق فيلق القدس وقائده، الى الرسالة الاستشهادية ‏الجريئة والواضحة المضمون التي وجهها الشهيد سليماني الى قائد اعتى قوة عسكرية في العالم، يمكننا ‏القول إن حجم الشهيد سليماني كان اكبر بكثير من حجم الاغتيال وإن عملية قتله، وبكل ما حملته من ‏الآلام، لن تستطيع ان تمحو الانجازات الاستراتيجية التي تحققت على يديه ولن تستطيع ان تنقذ القاتل ‏من عصر الفشل الذي دخل فيه. وها نحن قد شاهدنا ونشاهد، وبعد مرور اكثر من عام على غياب سليماني، كيف ان ‏الهزيمة قد لحقت بالاميركي المجرم، مجرجرًا اذيال هزيمته في افغانستان، وها هو يترنح في كل من سوريا ‏ولبنان واليمن وقريبًا في العراق، وكل هذا ما هو إلا نتيجة لجهاد طالوت العصر قائد جنود القدس الذين اختاروا الامساك عن الشرب من نهر التخاذل ليكونوا مع الله ومع حزبه، وإن ما نراه من تقهقر للأميركي وقلق للاسرائيلي هو أيضًا نتيجة لبذور التحرير وأشجار المقاومة التي زرعها وسقاها ‏بدمائه الرجل الكبير، الذي بعثر اوراق الشيطان الاكبر ورسم صورة مشرقة لمستقبل قادم، مستقبل متحرر ومحرر من هيمنة المستكبر، القائد الذي أوصى بأن يكتبوا على قبره “الجندي قاسم سليماني” ‏وليس أي كليشيهات أخرى.

اساسيالعراقحزب اللهفلسطينقاسم سليمانيلبنانلواء القدس