يقولون “إن هبت شيئًا فقع فيه، فإن شدّة توقّيه أشدّ من الوقوع فيه”، وهذا ما يجب علينا فعله هنا في لبنان، الذي يعاني منذ سنوات من أزمات إقتصادية وأمنية وسياسية عدّة، أدّت إلى انتقاله من حالة المعاناة بصمت إلى حالة الدمار الشامل. فبعد انطلاق تحركات تشرين الأول 2019 وتالياً استقالة الحكومة التي كان يترأسها سعد الحريري، تمظهرت الأزمة الاقتصادية بوضوح، وهي التي لطالما عبّر عنها وحذّر منها العشرات من الاختصاصيين الاقتصاديين والمحلّلين اللبنانيين والأجانب. فلبنان سويسرا الشرق، الذي لطالما كان يتّكئ على عكّازٍ مُهترئ، هل حان الوقت لأن يبني قوّته الحقيقية؟
في عام 2020، بلغت مديونية الحكومة اللبنانية حوالي 96 مليار دولار، حيث تبلغ حصة الفرد اللبناني من الدين حوالي 12 ألف دولار على الأقل مع تسجيل عجز في الميزان التجاري بنسبة 33% بسبب ارتفاع حجم الاستيراد من الخارج، وفقًا لتقرير أعدته قناة “الميادين”. وبلغت خسائر مصرف لبنان عام 2020 حوالي 63مليار دولار، وكذلك خسائر المصارف حوالي 83 مليار دولار في سنة واحدة. بالإضافة إلى العجز في كافة القطاعات الاقتصادية الزراعية والصناعية والتجارية، وكذلك السياحية التي لطالما كان يعوّل عليها لبنان بشدّة. أُضيف على معاناة اللبنانيين، أزمة انقطاع التيار الكهربائي على مدار ساعات طويلة في اليوم، وأحيانًا على مدار أيام عديدة متواصلة، لعدم توفّر مادتي الفيول والمازوت الضروريتان لتشغيل معامل الإنتاج والمولدات الخاصة. أما بالنسبة لأزمة انخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار، فقد وصل سعر صرف الدولار منذ فترة قريبة إلى 23000 ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد، مما أدى إلى تضخم اقتصادي تمثّل في ارتفاع أسعار السلع بوتيرة جنونية، في حين بقيت معاشات المواطنين والموظفين ثابتة، لا يغيّرها الزمن ولا حتى الحكومة اللبنانية.
أين تكمن المشكلة؟
عانى لبنان منذ زمن طويل، منذ ما بعد استقلاله العسكري لا السياسي، تبعية للغرب، فرفضت الحكومات اللبنانية المتعاقبة كافة العروض التي تصبّ في غير دائرة المصلحة الأميركية، خوفًا من “زعَل” أميركا. فهل هناك حقًّا أسوأ من هكذا حصار نمرّ به؟
ترفض الولايات المتحدة الأميركية فكرة أن تقوم إحدى الدول العربية أو الغربية، أو “الشرقية”، بمد طوق النجاة للبنان لإنقاذه من أزماته ومعاناته، كي لا يفلت من يدها ويتمرّد على سطوتها وغطرستها، أو كي لا تُقارن تلك المساعدات بـ”شبه” الخدمات التي تقدّمها أميركا للبنان. فقد رُفض سابقًا اقتراح سوريا بتغذية لبنان بالطاقة الكهربائية. وكذلك رفضت المشاريع الصينية والروسية المرتبطة بالكهرباء أيضًا وبناء السكك الحديدية على طول الساحل اللبناني. وها هي اليوم تُرفض الهبات الإيرانية، التي وصلت إلى لبنان رغمًا عن أنوف المتكلمين عن خرق السيادة والاحتلال الإيراني علنًا والخاضعين للغرب وأميركا سرًّا. فقد قدمت الجمهورية الايرانية عددًا كبيرًا من البواخر المحملة بالمازوت اليوم والبنزين غدًا، من دون أي مقابل سيادي أو فوائد مشروطة كفوائد صندوق النقد الدولي التي ستسهم في زيادة عجز ومديونية الدولة بدل مساعدتها. وكذلك قدمت الجمهورية عرضًا ببناء معامل كهرباء في بيروت وجنوب لبنان في خلال مدة لا تتجاوز ١٨ شهرًا مع إعادة إعمار لمرفأ بيروت… رُفضت وستُرفض أمثالها، فحدّث ولا حرج.
ما الحل؟
تعاني فنزويلا، ولأسباب عدة، حصارًا أميركيًّا بدأ غير معلن وأصبح لاحقًا معلنًا. وأعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، عام 2019، فرض حظر اقتصادي كامل عليها، متذرّعًا بممارسات مختلقة، لا إنسانية كاذبة حتمًا، للرئيس الفنزويلي الحالي. انهار الاقتصاد الفنزويلي، ووصلت نسبة التضخّم المتراكم في البلاد اليوم إلى 3684%، وبات ارتفاع الأسعار جنونيًا بشكل شهري إلى أن وصل 409.2% مما كان عليه قبل اشتداد الأزمة عام 2013، وفقًا لما جاء في تقرير لـ”الجزيرة”.
هل يختلف حال فنزويلا بحصارها “المعلن” عن وضع لبنان بحصاره “غير المعلن”؟
واجهت فنزويلا، التي تملك أكبر احتياطي نفطي في العالم، يفوق حتى احتياط الخليج النفطي، في خلال هذا الحصار المعلن أمورًا تشترك تمامًا مع ما يعانيه لبنان اليوم ضمن حصاره اللا معلن من الولايات المتحدة الأميركية، كالتضخم المالي وشحّ الدواء وانقطاع المواد الغذائية وارتفاع سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار… والفكرة تكمن هنا، فلبنان يستطيع بهذه العروض المقدمة له من دول الشرق كإيران وسوريا والصين وروسيا أن ينتشل نفسه من هذا الخراب ولو خصع لحصار معلن لا يختلف حاله عن حصار غير معلن، يُمنع لبنان فيه من استلام حاجات سكانه الأساسية في حين لا يقدر على إنتاج حاجته المحلية منها ولا تقدم له من دولٍ تّسمى بالحليفة تملّقًا.
إذن، فالضرر واحد والنتيجة ذاتها لكن بتسميات تختلف بين المُعلن واللا مُعلن.
فرغم كل ما توالى على لبنان من صعاب ومشاكل وحروب واعتداءات واجتياحات إسرائيلية وغيرها، لم يمرّ بأزمة مماثلة لأزمتنا اليوم وبهذه الحدّة، فالسلاح اليوم لم يعد فقط رصاصةٍ ومدفعية بل عملة وحصار يكاد بها العدو سحب أرواح الناس وطمأنينتهم. وكما جرت العادة دائمًا، تؤدي الولايات المتحدة الأميركية الدور الأبرز في الساحة حيث لا يجرؤ أيّ من سياسيي لبنان (إلا القلة المعروفة) على قول كلمة “لا” في وجه هكذا سلطان جائر، خوفًا من تهديدات نعيشها واقعًا منذ عدة سنوات. فهل يتخذ هؤلاء موقفًا شجاعًا لمرّة واحدة، واضعين مصلحة لبنان ومواطنيه نصب أعينهم، آخذين من التجربة الفنزويلية العِبر المطلوبة لنجدتنا؟ أم سنبقى عبيدًا في خندق التبعية؟ القرار بيد لبنان، ولا أحد سواه