شهدت مدينة بيروت يوم أمس تظاهرة شعبية مهولة، هي أقرب إلى حدث عجائبي كونيّ منها إلى مجرّد تحرّك بشريّ مليونيّ. واختلفت تقديرات الأعداد الغفيرة المشاركة بين وكالات الأنباء، ولكن لم يقلّ تقدير عدد الحشود الغاضبة بالاعتماد على الصور المأخوذة من الأقمار الصناعية عن 7 أشخاص، فيما ذهبت وكالات أخرى لتقدير العدد بحوالي اثني عشر شخصًا بالإضافة إلى كلب أبيض اللون، غاضب بدوره، ويبدو أن المتظاهرين ارتأوا أن يشاركهم الكلب في التظاهر في التفاتة كريمة منهم إلى حق الحيوان في إبداء الرأي.
واعتبر المشاركون السبعة، أو الاثنا عشر، أنّه جرى التعتيم على تحرّكهم ولا سيّما من قبل وسائل الإعلام المحلية والعالمية وحتى تلك التي قد تكون عاملة في المجرات التي قد يُكتشف فيها لاحقًا أثر للحياة، وردّوا ذلك إلى خوف الحكومات والمنظمات الدولية والشعوب وسائر الكائنات الحيّة من تأثيرهم كقوة غاضبة على مجرى الأحداث في الكون. ولكنّ التعتيم لم يثنهم عن تناقل صورهم عبر منصات التواصل، وإرسالها إلى الوسائل الإعلامية “الصديقة” لإيصال صوتهم الهادر: ارفعوا الوصاية الإيرانية عن لبنان.
لا فرق بين المغالطات الفادحة الواردة في الفقرة السابقة وبين الشعار الذي رفعه بالأمس حفنة من الأشخاص الذين لم يفعلوا سوى تكرار ما يقوله العديد من الجهات الرسمية والسياسية والإعلامية في لبنان. فالكذبة التي سُمّيت “وصاية إيرانية” متداولةٌ في الآونة الأخيرة، مع دخول الأميركيين في حال من التأزم في لبنان حدّ تشغيل من هبّ ودبّ في التسويق للكذب والتضليل، وفي توظيف كلّ الإمكانات المتاحة لخلق دائرة من وهم ودفع الناس إلى التحديق صوبها وكأنّها حقيقة.
لا شكّ بأنّ الكذب والتضليل هما من أهم أدوات الحرب النفسية والإعلامية المعتمدة أميركيًا حول العالم، واعتدنا رؤيتها تُستخدم بكثافة في حالات مختلفة:
- التمهيد لحرب عسكرية أو احتلال مباشر، كما جرى قبيل الهجوم العسكري على العراق اذ تمّ العمل على تسويق كذبة “أسلحة الدمار الشامل في العراق”.
- التحريض على الجهات المعادية للأميركي في نطاق البلد الواحد، ورأيناه على مدى سنوات الحرب في سوريا، ولا سيّما في إطار اتهام الدولة السورية بقتل المدنيين في كلّ مرة تمّت فيها محاصرة الإرهابيين واستهدافهم.
- تجهيز أرضية لاستهداف فئة محدّدة عبر فئات من البلد نفسه، دون أن يكون للأميركي حضور عسكري مباشر أو واضح. وهذا ما نراه في لبنان يوميًا، وما تفعيل أكذوبة “الوصاية الإيرانية” على لبنان والتسويق لعزل بيئة المقاومة باعتبارها “جالية إيرانية” إلا مظهر من مظاهر التحريض الذي يريد منه الأميركي استهداف حزب الله وسائر محور المقاومة، بأدوات لبنانية محلية، وبعقول استأجرها لتردّد ما يقوله لها دون أدنى نظر إلى الوقائع ودون أي اهتمام بتوخي المصداقية، ولو شكليًا.
أمّا بعد، لا داعي لتكرار الحقائق الساطعة حول وقائع التدخلات الأميركية اليومية والمستمرة والمتواصلة والمباشرة في لبنان، فماسحو البلاط العوكري يعرفون جيّدًا أن تسعيرتهم تُحدّد في سوق الكذب، وأنّهم مجرّد آلات تسجيل تنطق بما تُؤمر به وليس مطلوبًا منها أن ترى أو تتفكّر في الحقائق المرئية. وكذلك، ليس هناك من داع لتذكير روّاد خيمة البخاري الزاحفين إلى أمر مهمّة يعود عليهم برضا وليّ أمرهم وببعض فتات العطايا المرقومة، بأنّهم يكذبون دون إظهار أدنى احترام لأنفسهم أو التفات إلى معرفة الجميع بأنهم مجرّد كاذبين.
وبالتالي، إن كانت هذه النماذج هي التي ترفع شعار “لا للوصاية الإيرانية” فلا بأس من التفرّج على المشهد من زاوية فكاهية، مع تذكيرهم، على سبيل النكد ليس إلّا، بأن خيباتهم المتلاحقة لا بدّ ستؤثر في حالهم النفسية، وأنّهم بحال احتاجوا إلى علاج في هذا المجال، يمكنهم طلب المساعدة من إيران، فالدولة التي رغم حصارها ساعدت “لبنان” في كلّ أزماته، لن تتأخر في مدّهم بالعلاج الشافي إذا طلبوه.